انشغل مفكرو التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالبعد الثقافي فيها؛ الذي يعتبرونه جوهر فكرة التنمية، ورافعتها الأساسية.
فبدون إحداث تغيير ثقافي جذري في المجتمع لن تتحقق التنمية والنهضة الشاملة المنشودة، واعتبروا أن الانتقال من حالة التخلف والركود إلى حالة التقدم والنهوض يستلزم بداية الانتقال من ثقافة التخلف إلى ثقافة التنمية والنهوض الحضاري الشامل. هذه العملية الثقافية تستهدف عقل وفكر وسلوك الإنسان؛ الذي هو هدف التنمية الأسمى، وهو وسيلتها الأولى، وهو حارسها الأوحد؛ فبدون وجود إنسان على درجة عالية من الوعي الراسخ بقيم النهوض والتنمية الحقيقية لن تتحقق النهضة المنشودة، أو أنها تتحقق للحظات تاريخية محدود ثم يدمرها ذلك الإنسان غير الواعي؛ الذي ما زال يعيش عصور التخلف والفوضوية والأنانية البدائية.
لقد أدركت الدولة التي خاضت تجارب تنموية ناجحة مثل اليابان وكوريا الجنوبية وغيرهما أن إعادة بناء وتشكيل ثقافة الإنسان والمجتمع تأتي قبل إنشاء المشروعات التنموية العملاقة، والدخول في تنفيذ خطط التنمية الاقتصادية الكبيرة، لذلك كانت دائماً البداية بالتنمية الثقافية الإنسانية ثم الاجتماعية، وبعد ذلك تحدث التنمية الاقتصادية وتصاحب الاثنين التنمية السياسية بصورة تدريجية تتسق مع مستوى التقدم في درجات الوعي، ومستوى تحقيق الحاجات الاقتصادية.
وذلك التدرج والتزامن ضروري لأن الأهم من إنشاء المشروعات الكبرى هو كيفية المحافظة عليها وضمان استمراريتها واستدامتها، لأنه بدون الاستدامة لا قيمة للإنشاء، وبدون المحافظة على البنية التحتية يكون إنشاؤها إهداراً للموارد والإمكانات، والمحافظة على البنية الأساسية والخدمات ليست مسألة قانونية، وإجبارية تنظمها عقوبات، وإنما يضمن استمرارها، ويحافظ عليها وجود منظومة قيم وثقافة راسخة في عقول وقلوب المجتمع، كل المجتمع، بأهمية تلك المشروعات وضرورتها لرفاهية جميع أفراده، وأنها ملك لهم ومن ثم يجب أن يحافظوا عليها كما يحافظون على بيوتهم.
لذلك فإن المجتمع الذي يطمح إلى النهوض وتحقيق التنمية يحتاج إلى إعادة تربية وتثقيف على قيم النظام، واحترام الآخرين، والالتزام بالقانون واللوائح، والمحافظة على المال العام، والتمتع بالجمال، وآداب التعامل في الأماكن العامة، وحماية المرافق العامة.
وهذه القيم لا يمكن ترسيخها بمجرد الخطب والمواعظ، وإنما لها منهج يجب اتباعه والالتزام به؛ لأن تعليم القيم، وتغيير الثقافة يبدأ بفكرة يتقبلها عقل الإنسان؛ بعد أن يتم تنظيفه من الأفكار السلبية التي هي نقيض الفكرة أو القيمة التي يراد تعليمها، فإقناع الإنسان العادي بالمحافظة على المرافق العامة، أو الالتزام بالنظام حتى لو كان ضد مصلحته الوقتية؛ عملية تحتاج إلى تغيير مفاهيم، وقناعات وأفكار مسبقة؛ لتتحرك هذه القناعة من العقل إلى القلب، أي تتحول من فكرة مجردة إلى قيمة معنوية يسعد الإنسان بإيمانه بها، ويخجل إن خالفها، وبعد ذلك ينبغي أن يتم تحويل هذه القناعة والإيمان إلى سلوك فعلي؛ يمارسه الإنسان في مجتمعه مع نفسه وجيرانه والمحيطين به، يلتزم به مع مَن يعرف، ومن لا يعرف، يطبقه في البيت مع أسرته وخارج البيت مع كل من يتعامل معهم.
للوصول إلى هذه الغاية النبيلة؛ وهي تغيير ثقافة أبناء الوطن، لا بد من معرفة طرق الوصول إلى عقولهم وقلوبهم، ولا بد من تضافر الجهود لإقناعهم بالفكرة، وضمان التزامهم بها، وهذا في حد ذاته يحتاج إلى عملية غاية في الشمول والتعقيد، تحتاج إلى مشروع ثقافي وطني شامل تشارك فيه مؤسسات المجتمع جميعها؛ كل في مجال تخصصه، ويمكن أن تشتمل على الآتي:
أولاً: القيام بثورة تعليمية حقيقية، لأن كل ما يتم في معظم مجتمعاتنا هو ترقيع في ثوب متهالك مليء بالبقع، لا ينتج إلا عقولاً مليئة بكل القيم السلبية من الشطارة والفهلوة والغش والانتهازية والأنانية وعدم احترام النظام، والتمتع بمخالفة القانون، الحقيقة أن كثيراً من الدول العربية لا يوجد فيها نظام تعليمي، وإنما فيها بقع وبؤر تعليمية لا ينظمها نظام واحد، ولا تحقق أهدافاً واحدة، كل جامعة دولة مستقلة في ذاتها.
ثانياً: وضع خطة صارمة لجميع الخطب والدروس في المساجد والكنائس، بحيث تركز جميعها على القيم والسلوكيات والأخلاقيات العامة، ولا تقتصر فقط على قيم الخلاص الفردي، والنجاة الفردية في الدنيا والآخرة، التي خلقت ثقافة أنانية مفرطة في الفردية، وحولت المجتمع إلى وحوش، يطبقون ما سمعوه عن يوم الحشر في تعاملهم اليومي (نفسي.. نفسي)، حيث يفر كل منهم من أمه وأبيه وصاحبته وأخيه في الدنيا، فيقتل أباه من أجل بضع مئات من الجنيهات، أو تقتل زوجها من أجل نزوة.. هذه القيم صنعها وعظ الخلاص الفردي.
ثالثاً: فرض معايير على صناعة السينما والدراما بحيث يتم تنظيفها من قيم وثقافة القبح والفوضى والفهلوة، وكل القيم السلبية التي نشرتها مرحلة سيطرة الانتهازيين على صناعة السينما والدراما.
من خلال هذه الوسائل الثلاث الأكثر تأثيراً في صناعة الوعي الفردي والجماعي يستطيع المجتمع العبور من ثقافة التخلف والركود والفوضى العبثية إلى ثقافة الإنتاج والتطوير والتقدم المستمر وتحقيق الرفاهية والمحافظة على ثروة المجتمع وحياة أفراده. وهذه الوسائل الثلاث تقع في جوهر سلطة وصلاحيات الدولة التي هي القائد الحقيقي لعملية التنمية والنهوض الحضاري والحارس الأكبر لاستدامتها وتطورها المستمر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة