الوضع الناشئ في البحر الأسود يعطي انطباعا بأن احتمال المواجهة العسكرية بين الخصمين التاريخيين، روسيا وحلف شمال الأطلسي وارد في أي لحظة.
المتتبع لمسار التوتر، الذي تتردد أصداؤه هناك وعلى الحدود الأوكرانية الروسية، تصادفه جملة من القضايا الخلافية بين الجانبين طابعها تاريخي، ومسارها تصاعدي، في أقصى حالات التصعيد، ومنها التدخل الروسي في أوكرانيا وضم جزيرة القرم عام 2014، وقبلها التدخل العسكري المباشر إلى جانب أبخازيا وأوسيتيا الشمالية ضد جورجيا 2008.
ظلت ردات فعل الناتو، ومعه واشنطن، مقتصرة على التنديد والاستنكار، وفي حالات متقدمة أخذت شكل فرض عقوبات اقتصادية على قطاعات رسمية روسية وعلى بعض الشخصيات المرتبطة بالسلطة الروسية، لكن نهج الغرب الأطلسي ضد روسيا لم يحِدْ عن إطاره الاستراتيجي، التضييق المتواصل على الخصم اللدود، ووضع العراقيل والتحديات أمامه بهدف إضعافه والنيل من مكانته وهيبته مع الإبقاء على توازن مقنّن في العلاقات الاقتصادية تبعا لحاجة الغرب.
دوافع وحيثيات دول الناتو في شرق أوروبا وفي البحر الأسود مختلفة عن دوافع موسكو، بل ومتعارضة تماما معها، وهو أمر ليس بجديد.
يسعى الناتو إلى تشديد الخناق على روسيا من خلال سياقات عدة، بينها ضم الدول القريبة جغرافيا من روسيا إلى هياكله العسكرية والسياسية والاقتراب من حديقتها الخلفية، وتشعر موسكو أن السياسة الأطلسية بأبعادها الاستراتيجية ترمي إلى ضرب طوق بري وبحري عليها، وهو "تهديد لمستقبلها ولطموحاتها الجيوستراتيجية في أوروبا وفي أماكن أخرى من العالم لانتزاع أوراق قوتها تدريجيا، وصولا إلى حصارها في بقعة جغرافية محدودة المدى والتأثير"، مما يسهّل على عواصم الأطلسي "نزع الأنياب السياسية الروسية وتقليم أظافرها وأذرعها" في مناطق أخرى، تتخذ منها موسكو مواقع نفوذ لضمان مصالحها وتعزيز دورها وتأثيرها على المسرح الدولي بصفتها القطب الموازي للولايات المتحدة على رأس هرم العالم حتى الآن.
الشائع في السابق هو أن الحروب تندلع بدافع الأمن والمصالح المادية كما كانت عليه الحال قبل ثلاثة قرون وأكثر، اليوم يضع علماء السياسة والاستراتيجيات دوافع مغايرة لاندلاع الحروب بين الأمم أو بين الدول ويحصرونها في أربعة دوافع هي: الخوف، المصلحة، المكانة، الانتقام.
ومع ذلك يخلص العلماء المعاصرون إلى نتيجة حتمية مفادها أن أيا من هذه الدوافع الأربعة لا يمكن في الوقت الراهن تحقيقه على نحو فعال عن طريق الحرب بسبب عوامل متعددة، منها الأسلحة النووية لدى القوى الكبرى المتنافسة أو المتصارعة، وما يمكن أن تخلفه من دمار شامل وضحايا بمئات الملايين من البشر في حال نشوب حرب، ومنها ما فعلته ثورة التكنولوجيا في تعزيز وتطوير أساليب التدمير الهائل بأسلحة مجهولة ودون مواجهة مباشرة، علاوة على الترسانات الهائلة من الأسلحة التقليدية، صار خوض الحرب غير مجدٍ بشكل متزايد، حتى أن هذه الخلاصة باتت حقيقة سياسية يعترف بها الجميع.
بالنظر إلى هذه الحقيقة السياسية يمكن القول إن السجال الساخن، ميدانيا وسياسيا، على تخوم أوكرانيا ومياه البحر الأسود بين موسكو والناتو يندرج ضمن إطار دافع المكانة أو الهيبة والمصلحة لدى كل طرف، ودافع الانتقام والمصلحة عند الطرف الآخر، فالروس يعتبرون تنامي الحضور الأطلسي في محيطهم الجغرافي تهديدا مباشرا لمصالحهم ومسعى جديا للنيل من مكانتهم وهيبتهم، وهم يلتزمون ضبط النفس بحدود ما تسمح به مصالحهم وما تمليه عليهم متطلبات الحفاظ على مكانتهم وهيبتهم في ما يعتبرونها مناطق نفوذهم الحيوية.
ومعالجتهم لبعض التحديات، كحادث المدمرة البريطانية ديفيندر، التي انتهكت مؤخرا مياه روسيا قبالة سواحل جزيرة القرم، ينم عن حس عالٍ بالقيمة المعنوية للردع المحكم بقواعد الانضباط حفاظا على المكانة والهيبة.
دول الناتو تستثمر في العداء المستحكم بين أوكرانيا، القلقة من اجتياح روسي كما تقول، وروسيا المتوجسة من نهج كييف المناهض لها، لتحقيق أهدافها البعيدة بمزيج من دوافع الانتقام والخوف والمصلحة، فبعد أن استقطبت عبر ثلاثة عقود عدداً كبيراً من دول شرق أوروبا ودمجتها في هياكلها الأطلسية، اقتربت أكثر نحو ما تعتبره روسيا حدائقها الخلفية، حشدت مواقفها السياسية خلف تدريبات ومناورات عسكرية مشتركة مع أوكرانيا المتنازع عليها مع الروس.. راحت تدفع بشكل متدرج بعض الأطراف لتشكيل أدوات ضغط على خصمها الروسي دون أن تذهب إلى حدود التلويح بمواجهة عسكرية معه.
وتبدي موسكو قدراً من الحزم في السجال الساخن راهناً مع الناتو بشأن البحر الأسود وأوكرانيا، مصحوبا بنافذة للحوار من غير تراجع عن الخطوط الحمراء، وفقا للرئيس بوتين.
واشنطن وحلفاؤها الأطلسيون يراكمون من خلال تكتيكهم مواقف ضاغطة على روسيا بهدف انتزاع تنازلات في أوكرانيا وفي مياه البحر الأسود تحقق لهم ولو جزءا من أهدافهم الاستراتيجية على حساب خصمهم.
"توازن الرعب" ماثل في أذهان الطرفين، الغرب الأطلسي وروسيا، لا منتصر في أي حرب مهما كانت دوافعها، وبالتالي لن يكون هناك مهزوم.. ومنسوب التسخين بينهما مرشح للتراجع تدريجيا مع الإبقاء على أدوات ووسائل الصراع والمنافسة من قبل كل طرف.
وحسب المثل القديم: لا تبدأ حرباً إلا إذا كنت متمكناً من الفوز بها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة