الاختيار المدروس لموقع المدينة المستقبلية يدعم، بل يحتِّم نجاحها وتفوقها وتألقها.
تعلّمنا في منهاج الجغرافيا، خلال سنوات الدراسة، أن موارد وإمكانيات وطننا العربي قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي في مختلف المجالات الحيوية، وأن ثروات الوطن العربي ومقدراته كفيلة بتحقيق التكامل فيما بين دوله وشعوبه، إذا ما تم توظيفها بالطرق الصحيحة.
فالإمكانيات الموجودة في الدول العربية كفيلة بتوفير أعلى معدلات العيش الكريم لجميع العرب، من شرقهم إلى غربهم، وذلك بالنظر إلى الإمكانات الاقتصادية والجغرافية-السياسية بكافة أشكالها، والتنوع الثري الباهر في هذه المنطقة، ولذا فإننا، كعرب، نثق تماماً بهذه القدرات والرؤى القابلة للتطبيق، والأحلام الحضارية الكبرى القادرة على التحقيق، لأن كل شيء يؤكد إمكان ترجمتها بلغة الإنجاز، وتحولها إلى واقع ملموس ومنجز محسوس مع توافر الإرادة والإدارة الطموح.
العالم العربي بحاجة لمثل هذا المستوى من التفكير الحضاري والتخطيط العلمي للمستقبل. وهو بحاجة إلى أكثر من «نيوم» واحدة، فجميع أجزائه تكمن فيها مقومات النجاح إذا ما تم استغلال الموارد بالطريقة المثلى.
ولا شيء طبعاً يمنعنا من منافسة الأمم الأخرى، لأن كثيراً منها أقل منا حظاً في الموارد والوسائل المؤدية للنجاح. ولاشك أن مشروع «نيوم»، مدينة المستقبل، التي أعلن عنها الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، الأسبوع الماضي مثال واضح ودليل راسخ على أهمية التكاتف والتعاضد فيما بيننا لتحقيق طموحات المنطقة وأهلها، وهي دليل على توافر وتضافر الإرادة الحضارية والإدارة السياسية الآن لخلق فرص جديدة قادرة على استيعاب قدرات الشباب العربي وطاقاتهم وتوظيفها، لتحقيق التنمية الشاملة المستدامة لمنطقتنا العربية، والإقلاع بها من واقع تحديات التنمية إلى أفق الريادة والتفوق والتألق، وتصدُّر صفوف الأمم بالعمل والأمل وصناعة المستقبل.
المتأمل للإمكانيات المتوافرة لمدينة المستقبل «نيوم»؛ يدرك تماماً أنها قادرة على تحويل أنظار العالم إلى المنطقة لجذب الاستثمارات والإبداعات، وتحقيق الريادة الدولية في عالم الأعمال والطاقة المتجددة. والأهم من ذلك كله، أن هذه المدينة ستحقق المساهمة الفاعلة في رفع المستويين العلمي والثقافي في المنطقة كلها، من خلال سعيها لأن تكون نقطة الجذب الأولى للعقول البشرية، والعمل على تراكم الخبرات المعرفية للخروج بمدينة عصرية، قادرة على منافسة كبرى المناطق الاقتصادية الأخرى، مثل سنغافورة أو هونج كونج وغيرهما من نقاط جذب رؤوس الأموال العالمية.
هذا إضافة إلى الدور المُنتظر لمدينة المستقبل هذه، في الوصول إلى مرحلة تجاوز الاعتماد الكلي على الطاقة الأحفورية كالبترول، باعتبارها السلعة الرئيسية في المنطقة، وخاصة مع اقتراب تحول العالم إلى الطاقات المتجددة، ولذا فلابد من العمل المستمر لمواكبة التحولات والاستمرار في ريادة تصدير الطاقات إلى العالم. وكذلك سعي المدينة المستقبلية للاستثمار في الذكاء الاصطناعي، وتوظيفه بما يخدم مصالح المنطقة والاستفادة من الفوائد والعوائد المرجوّة منها، اقتصادياً واجتماعياً.
والاختيار المدروس لموقع المدينة المستقبلية يدعم، بل يحتِّم نجاحها وتفوقها وتألقها، حيث يرتبط الموقع بالحدود بين ثلاث دول رئيسية في المنطقة، تشمل المملكة العربية السعودية ومصر والأردن، هذا فضلاً عن عمق واتساع الشراكة الاقتصادية بين المملكة وبقية دول مجلس التعاون. وهي تعدُّ المنطقة الأكثر وسطية في العالم، فـ70٪ من سكان العالم يستطيعون الوصول إلى هذه المدينة الجديدة في غضون 7 ساعات فقط، الأمر الذي يشكّل نقطة انطلاق وجذب في الوقت نفسه في منطقة تتوسط العالم، وتربط ما بين عواصم الأعمال في آسيا والعواصم الغربية. هذا بالإضافة إلى المساحة الشاسعة للمنطقة الجديدة، التي ستبدأ من الصفر، وتصل في نهاية الأعمال التطويرية لغاية27 ألف كيلومتر مربع، وبمعنى آخر، فسيتمُّ إيجاد مدينة بحجم دولة قادرة على استيعاب مئات الآلاف من العاملين في مختلف التخصصات والمجالات لدول المنطقة، وستفتح باباً واسعاً لفرص العمل ومصادر الدخل، وتنويع وتسريع دوافع وروافع الصعود الاقتصادي. ولا يقل عن ذلك أهمية، أن المدينة ستحدُّ من تسرب الأموال إلى خارج المملكة، بسبب عدم تواجد الفرص الاستثمارية الملائمة أحياناً، وبالتالي سيجد المستثمرون الفرصة المناسبة لتوظيف أموالهم، والاستفادة من العائد المربح، علاوة على استفادتهم أيضاً من الموارد البديلة كطاقة الرياح والطاقة الشمسية؛ التي ستحلُّ محل الطاقات التقليدية. وكون هذه المدينة قريبة من مصر والأردن دليلاً واضحاً وقاطعاً على أن مقوّمات النجاح تعتمد على التحالفات، وتوحيد الجهود والصفوف العربية لتحقيق غايات المستقبل. وضرورة الإقبال على المشاريع الخلّاقة الرامية لتغيير شكل المنطقة، والدخول بها في عصر بناء حضاري وصناعي جديد، بدلاً من مما عانته من قبل من صراعات ونزاعات وحروب وثورات، لتتفرغ للتنمية وتوفير وتيسير كل مقومات الازدهار والوثوب نحو المستقبل, واللحاق بركب الأمم حتى لا يفوتنا قطار التقدم.
إن العالم العربي بحاجة لمثل هذا المستوى من التفكير الحضاري، والتخطيط العلمي للمستقبل. وهو بحاجة إلى أكثر من «نيوم» واحدة، فجميع أجزائه تكمن فيها مقومات النجاح إذا ما تم استغلال الموارد بالطريقة المثلى. وأي مشاريع سابقة كانت أو لاحقة، لمراكز جذب الأعمال في المنطقة ستكون مكملة لبعضها بعضاً، ومحققة لأهداف أخرى. والدول العربية بحاجة ماسّة للاستثمار في مراكز الجذب وخلق الفرص واستغلال الموارد المتاحة، والعمل بجد لكسب رهان المستقبل والتعاون والتكامل؛ حتى نكون دائماً في طليعة الأمم والشعوب.
نقلا عن "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة