يتزامن مع سماع أو قراءة ملامح الشرق الأوسط الجديد الشعور بالتيه لدى الكثير منا، فهنالك العديد من أطروحات نظرية المؤامرة.
ولكي نبدد هذا الشعور علينا رسم خريطة، تبدأ بتعريف الشرق الأوسط، ثم ماهية السياقات والدوافع لخروج مصطلح الشرق الأوسط الجديد، وأخيراً الملامح المتوقعة في الشرق الأوسط الجديد.
أولاً: الشرق الأوسط: فرغم أن مصطلح الشرق الأوسط يعد متضارباً بعض الشيء، فإن "الشرق الأوسط" يشمل دول شمال أفريقيا والجزيرة العربية وبلاد الشام وإسرائيل/فلسطين والعراق وإيران وتركيا، وتمتد التأثيرات حوله إلى مناطق على تخوم هذه الدول مثل منطقتي القوقاز وآسيا الوسطى.
والمنطقة تحمل تأثيراً كبيراً على الأمن والاستقرار الدوليين، كما أنها محل لصراع وتنافس بل وتعاون الدول العظمى والكبرى في النظام الدولي العالمي.
على سبيل المثال، تحدد مؤسسة راند الأمريكية المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط عبر: أمن إسرائيل وإتمام عملية السلام في الشرق الأوسط، واستمرار تدفق النفط للسوق العالمية، ومنع بروز قوة إقليمية عدوانية للمصالح الأمريكية، وأيضاً منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وتشجيع الإصلاح السياسي والاقتصادي بواسطة الاستقرار الداخلي، والسيطرة على الإرهاب.
ثانياً: ولادة فكرة الشرق الأوسط الجديد:
هناك مراحل وسياقات مثلت فرصةً ومجالاً لتشكيل الشرق الأوسط الجديد، يمكن تلخيصها في المحاور التالية:
1. القُطرية والعقيدة العابرة للقومية: بعد تحرير الكويت 1991، برز منظور القُطْرية في منطقة الخليج والشرق الأوسط بشكل قوي، خاصةً لدى الدول العربية التي ترى في نفسها القدرة على الفعالية الاقتصادية والسياسية في العلاقات الدولية.
وفي غضون ذلك، بدأت القضية الكردية تتبلور في استقلالها سياسياً شمال العراق (كردستان العراق)، وعلى نقيض القُطرية، أصبحت إيران قوية في لبنان عبر «حزب الله» وسوريا، وتزامن تطور العلاقة بين إيران و«حماس» مع الفتور في علاقة طهران بمنظمة التحرير الفلسطينية، حيث اختارت "منظمة فتح" المفاوضات سبيلاً وحيداً للحل مع إسرائيل.
كما أن تركيا أعادت رسم هويتها ودورها في الشرق الأوسط بعد نهاية الحرب الباردة واضمحلال دورها المحوري في الكتلة الغربية، حيث رأت في نفسها دوراً دولياً مهماً في كونها لاعباً في ساحة الشرق الأوسط عبر تعزيز علاقاتها مع العالم العربي ودول الجوار لها، وعملت أيضاً على تعزيز دورها الثقافي والسياسي والاقتصادي في منطقتي آسيا الوسطى والقوقاز، علاوة على أهمية القارة الأفريقية لتركيا من منظور دولة تمتلك منظوراً جيوسياسياً يعكس قدراتها الصناعية والاستثمارية وحتى الأمنية.
2. فكرة شمعون بيريز التعاون الاقتصادي مقابل مشروع دمقرطة الشرق بالمنظور الأمريكي:
بدأت فكرة الشرق الأوسط الجديد عبر فكرة أن التعاون الاقتصادي يمكن أن يحل مكان الصراعات، والتي تعود إلى "شمعون بيريز" في كتابه الشهير "الشرق الأوسط الجديد" الذي خرج في عام 1994، في سياق اتفاق أوسلو للسلام 1993.
مع وجود فكرة شمعون بيريز برزت فكرة دمقرطة المنطقة والفوضى الخلاقة، فعندما أخذ تنظيم «القاعدة» في البروز بعد حرب تحرير الكويت إلى أن ارتبط على المستوى الدولي عبر أحداث 11 من سبتمبر/أيلول 2001، أتت واشنطن حاملة راية الحرب على الإرهاب وإشاعة الديمقراطية عبر خلق نموذجاً لها باحتلال وبناء العراق، بينما موسكو أتت بإيران عبر استراتيجية تقليص فكرة هيمنة واشنطن على الخليج ومنطقة الشرق الأوسط.
جدير بالذكر أن لإيران دوراً في المعارضة العراقية التي نسّقت مع واشنطن لإسقاط نظام «البعث العراقي»، وبعدها شكلت إيران قوة في العراق من خلال البعد الشيعي الاجتماعي والسياسي، مما فرض على واشنطن التعاطي مع إيران للتعامل مع الوضع في بلاد الرافدين بعد سقوط نظام "البعث العراقي".
3. محورا الاعتدال والممانعة:
الحقائق تؤكد أن تحرير الكويت بالقيادة الأمريكية وانهيار الحرب الباردة، قاد إلى قناعة إقليمية بتحقيق السلام في القضية الفلسطينية، وهنا لا بد من ذكر حقيقة أن السلطة الفلسطينية كانت ترغب في ركوب قطار السادات للسلام، ولكن الموقف العربي كان رافضاً ومانعاً.
وفي هذه الفترة ظهرت تحالفات سياسية نتج عنها «محور الاعتدال» و«محور الممانعة» في الشرق الأوسط، وإن كان كلا المحورين تشكل بسبب القضية الفلسطينية؛ حيث إن محور الاعتدال يميل إلى التسوية مع إسرائيل مقابل محور الممانعة الذي يميل للمقاومة ضد إسرائيل وسياسة واشنطن في المنطقة.
إلا أن الحقيقة غير ذلك، فمحور الممانعة هو عبارة عن اختراق إيراني للنظام العربي وتصدير ثورته الإسلامية الشيعية.
4. الربيع العربي والصراع مع الإخوان:
تشكل في الربيع العربي صراعاً إقليمياً بين فرقين، الأول، يدعم صعود جماعة الإخوان للإمساك بالسلطة، مقابل فريق آخر يعتبر منتصراً في تحركاتهِ ضد جماعة الإخوان، على سبيل المثال فقط وقعت السياسة التركية مع حزب العدالة والتنمية في تضارب صارخ من استراتيجية صفر مشاكل في المنطقة إلى التورط في الوضع العربي وتبعات الربيع العربي.
5. الجيوبوليتكية الإيرانية العابرة للقومية:
إيران الدولة المجاورة لجميع دول الخليج بحرياً، والعراق بحرياً وبرياً، والمجاورة أيضا لدول آسيا الوسطى ومنطقتي بحر قزوين والقوقاز، تمتلك حضوراً جيوسياسياً مذهبياً في العراق واليمن-عبر الجماعة الحوثية- وسوريا سابقا، ولبنان، وتعد خطراً على سلامة وواقعية الدولة القومية ذات السيادة والتي تشكل أساساً للعلاقات الدولية وتطبيق الشرعية الدولية.
6. فكرة منظومة أمنية شرق أوسطية:
تعود فكرة إنشاء منظومة أمنية مشتركة في منطقة الشرق الأوسط حسب دوري غولد – السفير الإسرائيلي السابق لدى الأمم المتحدة- إلى عام 1996، فبعد اغتيال إسحاق رابين في 4 نوفمبر 1995 على يد متطرف بسبب الاتجاه نحو السلام مع الفلسطينيين، اقترحت حكومة بيريز آنذاك على واشنطن مجموعة عمل ثنائية لاختبار إمكانية إقامة تحالفات أمنية إقليمية لدعم عملية السلام، واتفق البلدان في يناير/كانون الثاني 1996 على إنشائها.
وبعد هذه البداية حدثت متغيرات إقليمية ودولية خلقت بدورها دوافع ومقومات لإنشاء مثل هذه المنظومة، والتي نضعها في المحاور التالية:
• الاتفاقيات الإبراهيمية: دوافعها هي القواسم المشتركة في تحقيق السلام والتعاون واستقرار الشرق الأوسط وتحقيق التنمية الشاملة لشعوبه، وجاءت إقامة هذه العلاقات مدفوعة أيضاً بهواجس أمنية.
• التحوط من إمكانية تراجع الاهتمام الأمريكي بالشرق الأوسط وتحمل مسؤولياتها في الدفاع عن المنطقة، لذلك برزت المساعي لملء الفراغ الجيواستراتيجي على أثر المخاوف من فك الولايات المتحدة ارتباطها بأمن الخليج والشرق الأوسط.
• احتواء مخاطر السياسات العابرة للقومية، والتي تهدد أمن وسلامة وسيادة الدول، وتندرج هذه المخاطر في جميع السياسات والتحركات والتنظيمات العقائد الدينية والمذهبية والقومية العابرة للقومية.
• وقف ظاهرة تزايد الدول الفاشلة في الشرق الأوسط، التي تعكس ضعف سلطة وشرعية بعض الأنظمة السياسية في فرض الأمن الداخلي وتحقيق مستويات مقبولة من التنمية الشاملة، على سبيل المثال، سوريا بقيادة "أحمد الشرع" اليوم تندرج تحت إعادة بناء الدولة.
وهذه الدول الفاشلة تفرز حروباً داخلية على الهوية الاجتماعية وصراعات على السلطة مع انتشار الفقر والجريمة والانتهاكات الإنسانية والمخدرات والقرصنة والتطرف وغياب العدالة وأيضاً تدفق اللاجئين.
ثالثاً: ملامح الشرق الأوسط الجديد:
1. السيادة الوطنية واضمحلال المليشيات: عودة مفهوم السيادة الوطنية للدولة ووقف السياسات العابرة للقومية القائمة على الأفكار والتحركات والتنظيمات الدينية والمذهبية والقومية، وهذا يرتبط بإنهاء عصر الفاعل دون الدولة تحديداً المليشيات والجماعات الإرهابية، التي تمتلك القدرة على خلق حروب وصدمات مسلحة وزعزعة الأمن مع الدول.
فالشرق الأوسط يشهد ضعفاً لقوة حزب الله كمليشيا، كما أن حزب العمال الكردستاني وبعد أكثر من أربعين عاماً بدأ بخطوة إلقاء السلاح لإنهاء الكفاح والتمرد المسلح، والدخول في حقبة جديدة ترتكز على استخدام ما تتيحهُ أطر السياسة والديمقراطية للدفاع عن حقوق الأقلية الكردية، ثمة حقيقة لابد من ذكرها هنا، وهي أن الفاعلين الدوليين من غير الدول خاصة المليشيات هي نتاج دعم مباشر أو غير مباشر من دول بعينها ضد دول.
2. اتساع حلقات الاعتماد المتبادل نحو استقرار منطقة الشرق الأوسط:
فكلما دخلت الدول في علاقات تعكس حالات من الاعتماد المتبادل في الخدمات والسلع والاستثمار تعززت العلاقات وأصبحت قوية في حالة تكامل كبير، حقيقةً، أضحت دائرة الاعتماد المتبادل تتسع، على سبيل المثال فقط، الاستثمار المتبادل بين الأردن وإسرائيل في الطاقة الشمسية من الأردن مقابل المياه من إسرائيل، ومن حالات الاعتماد المتبادل، مشروع "الممر الاقتصادي الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي"، وهذا المشروع يذكرنا بمشروع التابلاين السعودي الضخم عام 1950 الذي كان يحتل مكانةً عالمية في نقل النفط قبل ظهور ناقلات النفط العملاقة.
3. التنمية الشاملة وجودة الحياة أولوية شعوب المنطقة:
تحول منطقة الشرق الأوسط إلى منطقة مستقرة ومحطة للاستثمار والصناعة والتطوير، حيث ترتفع فيها مستويات التنمية الشاملة ومعايير جودة الحياة مع أنظمة سياسية فيدرالية أو كونفدرالية ذات سمة إدارية غير مركزية.
4. الشرق الجديد في معادلة النظام الدولي العالمي:
في تصنيف العلاقات الدولية فإن أي نظام إقليمي هو نظام فرعي من النظام الدولي العالمي، لذا فهو متأثر بقدرة واشنطن وبكين وموسكو والاتحاد الأوروبي في ضبط النظام الدولي، على سبيل التوضيح، موسكو رغم دعمها لنظام ملالي إيران إلا أنها لم تمكنهُ من قوة عسكرية مؤثرة على إسرائيل ودول الخليج العربية، فموسكو لها مصالح كبرى مع جميع الأطراف إلى جانب حضورها الثقافي في المجتمع الإسرائيلي، وما تفعله موسكو تقوم به بكين في المنطقة إلى حد كبير.
يفهم من ذلك، بأن مستقبل الشرق الجديد سيكون متأثراً عبر المتغيرات في النظام الدولي العالمي.
ومن أهم ما يمكن رصدهُ في المتغيرات الملموسة الدولية، بروز الفكر اليميني وظاهرة الفاشية في البلدان الأوروبية الغربية والولايات المتحدة وصولاً إلى الهند أيضاً، "ويمكن تعريف الفاشية بصورة دقيقة بأنها رؤية التجانس الثقافي الكلي، مقابل رؤية مضادة لجميع الهويات والأقليات الأخرى".
ومن المسائل المطروحة، إشكالية العولمة ومصالح الدول القُطرية الغربية في توفير الوظائف والسلع الضرورية ومنع ظاهرة رحيل الشركات الكبرى والصناعات المتعددة، على سبيل المثال وللتوضيح، بسبب العولمة أضحت ألمانيا التي كان يطلق عليها "صيدلية العالم" تعاني عدم توفر بعض الأدوية مثل المضادات الحيوية وخافضات الحرارة وأدوية الأطفال وغيرها كالمحاليل الملحية، وهذه المعضلة سببها أطر العولمة وما تتيحهُ من تقسيم خطوات الإنتاج وحرية الاستثمار، وتحقيق الأرباح عبر العمالة الرخيصة والتوزيع ووجود شروط بيئية أقل صرامة من الأوروبية؛ لذا أصبحت العديد من المصانع الألمانية تنتج أدويتها في الصين والهند، فعلى الرغم من استحالة وقف العولمة إلا أن من الممكن تعديل إطارها.
هذا التقرير يعد محاولة لفهم ما هو قادم أو بصورة أدق ماهية أهم المرتكزات التي لابد أن يقوم عليها الشرق الأوسط الجديد، كما أن هذا التقرير يفتح مجالاً لطرح مختلف الرؤى والتوقعات في استشراف المستقبل على قاعدة الشرق الأوسط بين الواقع والمأمول.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة