إجابة متكاملة الحيثيات على سؤال: كيف يوصف النظام الدولي بعد الذي جرى في الولايات المتحدة من جروح وسحجات.
في كل منعطف من أحداث الدنيا يبدأ الحديث فورا عما إذا كان العالم قد تغير أم لا، وإذا كان تغير فإلى أين يذهب؟ وإذا كان قد ظل على حاله، فما الذي جعله ثابتا هكذا وأحوال الدنيا تنقلب؟ ما جعل التساؤل يظهر على سطح الحوارات الكونية أمرين: أزمة كورونا، والانتخابات الأمريكية.
في الثاني من مايو الماضي نشرت مقالا في "العين الإخبارية" بعنوان "إلى أين يسير العالم" ذكرت فيه أن الأمر الذي اتفق عليه المحللون والمراقبون هو أن العالم سوف يتغير نتيجة "كوفيد-19"، ولكن ما اختلفوا عليه كان مدى التغيير، وفي أي اتجاه، وفي ذلك انقسموا إلى اتجاهين: أولهما أن العالم سوف ينقلب رأسا على عقب، باختصار سوف يكون هناك عالم آخر. وثانيهما أن الأزمة في حقيقتها "كاشفة" عن عالم كان يتغير بالفعل، وما علينا إلا مراقبة ما كان من تغيرات تكنولوجية وفي توازنات القوى الدولية حتى نرى ما نراه الآن وما هو قادم أيضا.
وعلى أي الأحوال فإنه رغم كل التطورات الأخيرة بالنسبة للفيروس التاجي في موجتيه الثانية والثالثة، فإن العالم بات حقا على أبواب اكتشافات للقاحات وأدوية باتت في طريقها إلى الأسواق العالمية قبل نهاية العام، وقبل صيف العام القادم سوف تكون في طريقها إلى كافة أنحاء المعمورة. نهاية "الجائحة" سوف تضعنا مباشرة في مواجهة تغيرات عالمية مثيرة.
وبالنسبة للانتخابات الأمريكية فالحقيقة أنه ليس جديدا أن يهتم العالم بهذه الانتخابات، فهي تخص دولة هامة ومحورية في النظام العالمي منذ الحرب العالمية الثانية. ولكن الجديد في الأمر أن الاختيارات الأمريكية هذه المرة كانت تتعامل مع اتجاهين متناقضين تجاه الداخل والخارج الأمريكي. ومن الطبيعي أن أزمة هائلة "مثل كورونا" قد ضغطت على هذا التناقض إلى حد كبير، ولكن المواجهة كانت من الحدة بحيث ورد فيها ما لم يرد في انتخابات سابقة. لأول مرة حقق الحضور الأمريكي في الانتخابات في كل المؤشرات ما لم يحققه من قبل حيث بلغت نسبة المشاركة 70% ممن هم في سن التصويت، ومن ناحية فاز "جو بايدن" بأصوات أكثر من 77 مليونا، بينما حصل منافسه "دونالد ترامب" على أكثر من 72 مليونا، بزيادة قدرها 8 ملايين عما حققه في الانتخابات السابقة في 2016. هذه الحالة من الاندفاع الشعبي خلقت الكثير من الإشكاليات المتعلقة بحساب الأصوات وجدولتها، وخلقت دوافع لدى الساكن في البيت الأبيض لعدم اتباع التقاليد المرعية في انتقال السلطة في الولايات المتحدة.
وحتى وقت صدور هذا التقدير فإن القضية لم تكن حسمت في واشنطن؛ ولكن أحدا لم يشك في أنه عندما يقدر للمجمع الانتخابي الانعقاد في ١٤ ديسمبر القادم فإن انتقالا للسلطة سوف يحدث. ولكن ما كان هناك شك فيه هو أن الرئيس سوف يستسلم، والمرجح أنه سوف يخط له طريقا آخر في المعارضة التي لا تساندها فقط تمثيل في الكونجرس والمؤسسات الأمريكية، وإنما في الشارع الأمريكي أيضا. وهكذا وسواء انتهت المسألة الأمريكية إلى نهايتها المتوقعة بوصول جو بايدن إلى البيت الأبيض وانتهى ترامب إلى دوائر رجال الأعمال أو صار قطبا من أقطاب الإعلام الأمريكي أو دخل السجن لأسباب لا داعي للاستطراد فيها؛ أو أن ذلك جرى وسط تغيير عميق في الساحة السياسية الأمريكية بخروج ترامب من السلطة وامتطائه صهوة المعارضة السياسية الجمهورية على الطريقة "الترامبية" الشعبوية الاستقطابية، فإن الولايات المتحدة تكون قد تغيرت جذريا عما أراد لها المؤسسون الأوائل أو وصل لها مشروعها الذي أرادته لنفسها في النظام العالمي.
ولكن ما هو هذا النظام العالمي الذي نتحدث عنه؟ الشائع في علوم العلاقات الدولية، هو أنها ترتكز على القوى العظمى وعلاقاتها، وما بعد ذلك إما مجرد تفاصيل، وإما أقل شأناً من المنظومة الرئيسية القادرة على الهيمنة ومد النفوذ، والمنافسة بالسلم أو بالحرب أو بالردع مع القوى العظمى الأخرى. والشائع أيضاً أن توصف المنظومة الرئيسية بعدد الأقطاب فيها، فيقال النظام متعدد الأقطاب، كما كان الحال ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. أو نظام القطبين، كما كان في أعقاب الحرب الثانية؛ حينما انفردت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بالنظام الدولي. أو نظام القطب الواحد، كما كانت بريطانيا ما بين 1815 بعد هزيمة نابليون و1914 ونشوب الحرب العالمية الأولى، والولايات المتحدة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 وحتى عام 2008، عندما جرت الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية، وهو العصر الذي سُمِّي العولمة شكلاً، أما في الحقيقة فقد كانت الولايات المتحدة هي القائدة العظمى الوحيدة في العالم.
فيا ترى ما هو الحال الآن، وكيف يوصف النظام الدولي بعد الذي جرى في الولايات المتحدة من جروح وسحجات، وما جلبته أزمة كورونا من أوجاع ونكبات؟ الإجابة المباشرة هنا، هي أن العالم لم يعد أسيراً لقوة عظمى وحيدة، لأن التحدي للولايات المتحدة بات كبيراً، كما أن العالم لم يعد متعدد الأقطاب، على عكس ما كان شائعاً أن اليابان والهند وأوروبا الموحدة سوف تدخل في منظومة التنافس على قيادة العالم وتوجيهه، ولكن العالم يدخل حثيثاً إلى منظومة ثلاثية القوى العظمى: الولايات المتحدة الأمريكية، ودولة روسيا الاتحادية، وجمهورية الصين الشعبية.
المسألة لا تبدو بهذه البساطة العددية، فقد مضت مياه كثيرة تحت الجسور الدولية منذ هبط الوباء على عالمنا، ومنذ وصل ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة. ولعل أهم علاماتها أن شعلة "العولمة" الاقتصادية على الأقل قد انتقلت من الولايات المتحدة إلى الصين التي باتت أكثر تدينا وتعصبا لحرية التجارة والانتقال السلمي للسلع والبضائع والاستثمارات من أي وقت مضي.
وتفعل الصين ذلك مرة في مبادرة الحزام والطريق؛ ومرة أخرى بالتوقيع والتشجيع على إقامة منطقة للتجارة الحرة على جانبي المحيط الباسفيكي، وهي المعاهدة التي خرجت منها الولايات المتحدة بقرار من الرئيس ترامب في الشهور الأولى لولايته، ومرة ثالثة بعلاقات ثنائية لا تستثني أحدا ولا تستبعد في قارات العالم المختلفة.
الرئيس المنتخب بايدن لم يتحدث عما ينويه بالنسبة للعولمة، وخالص قوله هو تقوية حلف الأطلنطي وعودة العلاقات الأوروبية الأمريكية إلى ما كانت عليه. مثل ذلك صعب للغاية، لأن أوروبا تأتي هذه المرة فاقدة بريطانيا، وفيها كثيرون من المعجبين بترامب وكانت مسيرتهم مشابهة لما كانت عليه مسيرته في الولايات المتحدة.
مناقشة الموضوع تستدعي ما هو أكثر، ليس فقط لأن نتائج "كوفيد- 19" سوف تظل معنا لفترة خاصة في نتائجها الاقتصادية، وإنما لأن التطورات التكنولوجية تلح على عالم يختلف تماما عما عرفناه ويجري بعضها بعيدا في الفضاء السحيق، وبعضها الآخر ينزل إلى العميق في البحار والمحيطات، وبعضها الثالث يربط ما بين ثورة المعلومات والثورة البيولوجية.
هناك من ناحية أخرى أن الدولة القومية، وسياسات الهوية، تفرض نفسها بقوة نتيجة ازدياد الوعي بالذات الذي يقوم هو الآخر على إدراك للآخر المختلف والمتميز. وبعضها الرابع أن "القوة" سواء كانت الخشنة أو الناعمة أو الذكية كلها لها تأثيرات مختلفة على توازنات القوة المعقدة في عالم لم يعد كما كان ومن ثم لم تعد معادلاته الجديدة بالبساطة التي يمكن فهمها. ما نملكه سوف يكون دائما الاستمرار في المحاولة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة