نحن أمام رئيس أمريكي جديد ينتمي للحزب الديمقراطي بكل أفكاره وأطروحاته التي نعرفها، وهناك فارق كبير بين موقع نائب الرئيس.
انبرت بعض الأقلام العربية والأجنبية في استشراف مواقف وتوجهات الإدارة الأمريكية الجديدة، وتعاملاتها المتوقعة مع الدول العربية بصورة جماعية، وعلى مستوى كل دولة على حدة، واللافت أن هناك تداخلا في التوصيف والتوقع، ربما انطلاقا من أن مواقف الرئيس المنتخب جو بايدن معلومة ومتعارف عليها منذ أن كان نائبا للرئيس باراك أوباما، وأن منهج الحكم والتوجهات التي ينطلق منها الحزب الديمقراطي تم اختبارها في المنظومة الإقليمية والدولية، وداخل العالم العربي، خاصة تجاه الملفات العربية المفتوحة على مصراعيها ولم تحسم ومنها الملف السوري والملف الليبي والملف اليمني، إضافة للتحديات والمخاطر الإيرانية والتركية والإسرائيلية، وهو الأمر الذي سيظل مرشحا بقوة للطرح، والتعامل وفقا لمعادلة صعبة لن تتشكل بسهولة في المدى المنظور.
بداية نحن أمام رئيس جديد ينتمي للحزب الديمقراطي بكل أفكاره وأطروحاته التي نعرفها في العالم العربي جيدا، وهناك فارق كبير بين موقع نائب الرئيس وصلاحياته، وبين الرئيس الذي يملك صلاحيات فيدرالية كبرى تمنحه مهام سلطوية كبيرة، وهو ما سيكون محل اختبار في الـ100 يوم الأولى من الحكم والتي سيركز فيها على قضايا الداخل، وسيكون لملف إدارة أزمة كورونا وإعادة تفعيل قطاعات الاقتصاد الأمريكي على رأس الأولويات المهمة، وبالتالي لن ينشغل بقضايا السياسة الخارجية التي ستكون في مرتبة تالية، ما لم يطرأ جديد ومفصلي للتدخل والتعامل، بل والاشتباك مع أي طرف مثل الصين أو إيران أو الاتحاد الأوروبي .
لن يتجه الرئيس المنتخب إلى إلغاء أو تعطيل بعض القرارات التي اتخذها الرئيس ترامب، ومن هذه القضايا إلغاء قرار ضم القدس أو نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، أو إعادة تمويل "الأونروا"، فهذا أمر ارتبط بإدارة أمريكية حكمت الولايات المتحدة لأربع سنوات كاملة، ولكن قد يتجه للتضييق على بعض المشروعات التي سبق وأن قدمتها الإدارة الأمريكية السابقة، ومنها تنفيذ مقاربة المنامة أو استكمال ما تم طرحه في الشرق الأوسط من رؤى جديدة مختلفة تعمل لصالح الولايات المتحدة وليس لإدارة ديمقراطية أو جمهورية، وهو ما يعني أن الدول العربية في مجموعها لن تتعامل مع إدارة ديمقراطية فقط، بل ستتعامل مع مؤسسات نظام الحكم الفيدرالية، والتي تشكل بنية القرار السياسي والاستراتيجي للإدارة وهو ثابت ولا يتغير، ولا يمكن لرئيس أيا كان أن يغيره أو يتجاهله، خاصة أن الولايات المتحدة تعيش في الوقت الراهن مرحلة من الاستقطاب الكبير، وحالة من عدم الاستقرار مما قد يهز القيم السياسية التي أرستها التعددية الديمقراطية، والتي لا تزال تقدم نموذجا للحكم على أسس راسخة.
ليس من مصلحة الحزب الديمقراطي أن يعيد طرح خطاب سياسي واستراتيجي مكرر، خاصة أن أوباما جاء في سياق تاريخي محدد، ومناخ مرتبط بتحولات سياسية داخل النظام الأمريكي بأكمله وكان مزاج الناخب الأمريكي يعمل في اتجاهات معينة أتت بالرئيس أوباما لسدة الحكم، أما في الوقت الراهن، فالأمر مختلف تماما فالرئيس جو بايدن ينتمي في الأصل لنخبة واشنطن، وهي نخبة لها قناعاتها السياسية والاقتصادية وتملك منظورا سياسيا مغايرا تجاه العالم بأكمله وليس الدول العربية، وتتبنى هذه النخبة رؤية أقرب لليسار المعتدل أو الراديكالية التعددية، ما يعني أن التأكيد على قيم الديمقراطية والتعددية والحقوق والحريات يأتي في سياق محدد وليس من خلال الضغط من أعلى، فلكل دولة خياراتها وقراراتها المنفردة، وواهم من يتصور أن الإدارة الأمريكية الجديدة ستعيد تشكيل العالم من جديد، أو أنها ستعيد التأكيد على مبدأ "مَن ليس معنا فهو ضدنا"، وأن الولايات فوق العالم وأنها سيدة النظام الدولي الراهن بمفردها وأن من حقها إعادة صياغة العالم وفقا لحسابات سياسية واستراتيجية حقيقية تعمل في اتجاه واحد، فلا الصين ولا الاتحاد الأوروبي سيقبلان بهذا الأمر، بل سيعملان على الاستمرار في إزاحة الإدارة الأمريكية من التدخل في ملفات قائمة، ومنها فرض استراتيجية للأمن الأوروبي، أو إعادة تعريف مهام حلف الناتو أو بناء علاقات عربية إسرائيلية على أسس محددة تعمل لصالح أمن إسرائيل على حساب الأمن القومي العربي، وقضايا أخرى عربية أمريكية.
إن منظومة العلاقات العربية الأمريكية تتضمن قضايا عديدة وتقوم في الأساس على قاعدة المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، والتي حكمت مسارات العلاقات لسنوات طويلة، وبالتالي فالمخاوف من ضغوطات أمريكية على الدول العربية للتماهي مع المصالح والتوجهات الأمريكية المستجدة غير صحيح، فالدول العربية في مجموعها تدرك جيدا أن هناك خيارات عدة في مسارات التحرك، كما تدرك الإدارة الأمريكية أن أوراق الضغط العربية كبيرة ومتعددة، وليس صحيحا أنها تعمل في اتجاه واحد، وبالتالي فإن المضي في ترسيم الشرق الأوسط وفقا لحسابات أمريكية يجب أن يقابله، وفي التوقيت نفسه، إدراك أمريكي بل ودولي بما تلعبه الدول العربية من ثقل سياسي واستراتيجي واقتصادي لا يجب أن يغيب في الرؤية أو الاستشراف، ومن ثم فإن القضية الرئيسية هي أن القوى الأخرى الكبرى مثل الصين وروسيا، بل والاتحاد الأوروبي، تدرك جيدا أن الإدارة الأمريكية ستسعى لإعادة ترسيم مناطق النفوذ ذات الثقل السياسي في مختلف الأقاليم وفقا لحسابات محددة، وبالتالي سيكون لها دور في التعامل مع عالم عربي له أيضا مصالحه وحساباته وتقييماته الكبرى في المديين المتوسط وطويل الأجل .
الخلاصة أن العلاقات العربية الأمريكية تحكمها ضوابط ومعايير ومصالح حقيقية لا يمكن أن تتأثر برحيل إدارة أيا كانت توجهاتها تجاه القضايا العربية، خاصة أن تسكين هذه القضايا أو الملفات الساخنة سيحتاج بالفعل لطرح جاد وترتيب للحسابات وفق مبدأ النفقة والتكلفة والعائد، وهو ما تدركه الإدارة الأمريكية التي لديها أيضا تحفظاتها ومخاوفها من احتمالات ذهاب بعض الدول العربية لمسارات بديلة، وهو ما يجب استثماره عربيا سواء في القضية الفلسطينية أو حسم الصراع في ليبيا أو إيجاد تسوية مقبولة في سوريا، مع التأكيد على ضرورة محاصرة المشروعين الإيراني والتركي في نطاق محدد وعدم السماح لهما بالتمدد في المنظومة العربية.
إن تعامل الدول العربية مع إدارة الرئيس المنتخب جو بايدن يجب أن يقوم على الندية، وقاعدة المصالح المتبادلة بصورة جلية وعدم الرهان على ملف على حساب ملف آخر، أو تقديم شيك على بياض في ملفات جوهرية تحتاج إلى تنسيق وإعداد وترتيب أولويات مع التوقع باحتمالات حدوث بعض التجاذبات، وهو أمر طبيعي في بعض تفاصيل الملفات العربية المشتركة، وما أكثرها وبما في ذلك مسار الاتجاه لبناء نظام شرق أوسطي بديل عن النظام الإقليمي العربي الذي يحتاج بالفعل وفي هذا التوقيت الحساس إلى إعادة نظر ومراجعة، وبما يخدم المصالح العليا للدول العربية في مواجهة التحركات الإيرانية والتركية المهددة لأمن المنطقة بأكملها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة