السورية عبير أسبر لـ"العين الإخبارية": رواياتي السابقة أفلام لم أستطع إنجازها
الروائية السورية عبير أسبر في حوار مع "العين الإخبارية" تبوح فيه بتعقيد علاقتها بمدينة دمشق، وتأثير الغربة والسينما على أعمالها
كشفت الكاتبة السورية عبير أسبر عن أن رواياتها السابقة كانت عبارة عن أفلام لم تستطع إنجازها، فحولتها إلى روايات.
ووصفت، في حوارها مع "العين الإخبارية"، علاقتها بمدينة دمشق بأنها "علاقة مرتبكة مثل أي ارتباك مع حبيب أو أب خيّب توقعاتك".
وتقول "حين ولدت فيها ولدت في مدينة بلا نهر يغسل وجهها، ولذلك كتبت روايتي "سقوط حر"، لأنني أردت فهم ما حدث من تراجعات، وكشف الصورة الفلكلورية عن الشام".
عبير أسبر سينمائية وروائية سورية درست الأدب الإنجليزي، ثم واصلت دراستها في المدرسة العليا للفنون السمعية والبصرية في باريس، ثم عملت مخرجة مساعدة ومخرجة منفذة وعاملة سكريبت في عدد من الأفلام السينمائية والأعمال التلفزيونية مع المخرجين هيثم حقي ويسري نصر الله وسمير ذكري وريمون بطرس.
كتبت مجموعة من الروايات منها "رائحة الموت"، "منزل الغياب"، "قصقص ورق"، ورواية "لولو" التي نالت جائزة حنا مينا الأولى للرواية في سوريا عام 2003، كما أخرجت فيلمين سينمائيين، الأول "عبق مغادر" والثاني "تك تك"، كما كانت كاتبة ومخرجة المسلسل السوري "العبور".
وفي روايتها الجديدة "سقوط حر" تؤرخ عبير أسبر للتحولات التي شهدتها سوريا من عام 2011 وحتى الآن، عبر تناول حياة "ياسمينا"، التي قتلت والدها الطبيب خليل داغر مريض ألزهايمر، وهو في الثمانين من عمره حين تركته يسقط من الدرج سقوطا حرا، لترث أملاكه بعدما هجرته أمها، لكن البطلة لم تنجح في بيع بيت عمره 250 عاما يضم مقبرة عائلة كبيرة، لأن وريثا آخر قاوم البيع، واستولى عليه باسم الحفاظ على "تاريخ العائلة".
ترصد الرواية، التي صدرت عن دار "هاشيت أنطوان"، أشكال الصراع على هذا الإرث، وفي الخلفية دائما كانت وقائع ما جرى في سوريا، كاشفة عن عمق التحولات التي قادت البطلة إلى الإبلاغ عن حبيبها الوحيد ثم الخروج كلاجئة من خلال واحدة من منظمات الإغاثة، حيث "لملمت عمرها فى حقيبة وهاجرت إلى كندا".
ما دلالة العنوان في الرواية؟
العنوان يقدم مقاربة لتلك الحتمية، التي أدى انهدامها فوق حياتنا، لتشكل ركام المأساة السورية، ألا وهي حتمية السقوط التي تريد "واعياً" أن تنزع عنها صفة القدرية لكنك لا تستطيع، فالسقوط هنا.. هو تماماً ذاك النزوع الفيزيائي لمنطقية النتائج التي أفضت إليها تلك المقدمات.
وكيف تؤرخ الرواية لدمشق في زمن التحولات؟
ما جرى أن سقوط حرّ كانت مجرد مبرر لمقاربة الشام وتفكيك إرثها العمراني، العمارة الدمشقية عمارة طاغية كطغيان الجمال، فالشام مدينة سمح لها جمالها، حيث تبغي وتتجبر، فلم يناقشها أحد، حتى عندما اهترأت وتحنطت وتداعت وجفت ظلت حاضرة بالقصائد والروايات كحاضرة غنّاء وحديقة بهية.
وكان هذا ما سبب لي الكثير من الغيظ، إذ لم أتعرف طوال حياتي على ذاك الوجه، ولا عشت قصائد نزار قباني في حواريها، ولا تنشقت عبقها المغدور، إذ ولدت في بداية السبعينيات، مع ترسخ حالة الموت السياسي، في بلد أنهك بالانقلابات والقمع، ولدت في مدينة بلا نهر يغسل وجهها، إذ جفّ بردي كأنه يحتج بدوره على قحط الحياة والخيارات، وكان وجه المدينة الموازي الجديد هو وجه لمدينة بشعة، عمارتها أسمنتية، جامعاتها مسارحها ومستشفياتها بنيت بهواجس أمنية، ياسمينها ذاوٍ، وعشوائياتها تخنقها بالبذاءة والفقر، بينما ظل ذاك الجمال الآخر، الجمال القابع في حواري الشام، بمعظمه فلكلورياً-شعبوياً، انزاح للمطاعم وحفلات الطهور والشوارب المفتولة لقبضيات المسلسلات المسفة، ومن هنا وعيت دوماً غربة الصورة الأدبية عن صورة الواقع، ومنذ ذاك الوعي تشكلت مع المدينة علاقة مرتبكة مثل أي ارتباك مع حبيب أو أب خيبك، وكي أفهم ما حدث كان عليّ أن أحكيها على مستويين ما عاشه آباؤنا، وما عاشه جيلي، أردت أن ألتقط الشام ما استطعت.
لماذا اخترت بطلة تشبهك تتماهى مع مسارات في حياتك؟
تلك لعبة روائية أحب ممارستها، إذ حضرتُ في "قصقص ورق"، روايتي الثالثة، باسمي وباسم عائلتي، أعتقد أن السبب أني اتهمت نقدياً في رواياتي السابقة أني أتخفى وأتلبس شخصيات ذكورية، بطلي في لولو كان شاباً مراهقاً، وفي منازل الغياب كان "وسام" شاباً ثلاثينياً يحلم بالموت، فأردت ربما عبر "ياسمينا" في "سقوط حر"، و"عهد داغر" في "قصقص ورق" أن أخلق شخصيات أنثوية أحمّلها هويتي، ومسارات حياتي دون قلق، كرد غير قصدي على تلك التهم "النقدية"، مع الاعتراف أني حتى الآن أرتبك عند مقاربة الشخصيات الأنثوية.
البيت كموضوع للصراع العائلي.. هل يحمل إشارة لواقع سوريا اليوم؟
هذا صحيح تماماً، وكان الخط العام للرواية دائماً ما يصل إلى هذا الاستخلاص، شخصيات رواياتي يصطرعون على مقبرة وذكرى الموتى على الماضي، بينما الناس الآن في البلاد يموتون من أجل حاضر أفضل، من أجل حياة أحلى وأغنى.
قلت ذات مرة إنكِ تصالحتِ بهذا النص مع فن الرواية، وإنك بدأت أعمالكِ السابقة كنصوص سينمائية.. فهل جاءت تلك الرواية مباشرة؟
نعم.. أردت أن أكتب للمرة الأولى كروائية، أن يكون العمل منبثقاً من فعل الحكي لا من فعل الرؤية، أردت نصاً نزيهاً عن البهلوانيات السينمائية التي كنت ألعبها، كانت رواياتي فيما مضى عبارة عن أفلام لم أستطع إنجازها فحولتها لروايات، هنا في سقوط حر تصالحت مع ذاتي الكتابية، قد لا يبدو هذا حاضراً في النص -مع أني أعتقد أنه قد حضر- لكن كما قلت لك التسوية كانت نفسية وذهنية، أردت ألا أكتب وأنا أعتقد أني مخادعة، لم أرد أن تكون نواياي مغشوشة تجاه هذا الفعل الذي تعاملت معه بخفة في كتبي السابقة، وقمت به لملء الفراغ الروحي الذي تركه تراجع مشاريعي الدرامية. في "سقوط حر" بدأت التفكير بالعمل كروائية وأنهيته وبنيته كما تبنى الروايات.
هل سمح وجودك في كندا بمسافة مع المكان لتأمله من موقع آخر؟
أعتقد أن تجربة الغربة يجب أن تمارس مرة واحدة في الحياة، بمعنى أن تذهب دون أسلحتك، من محيطك الآمن، من لغتك وترمي ذاتك في مكان لا يشبهك في شيء.
لوصولي كندا إحالات غير مفرحة، وصلت هنا بعد رحلة لجوء لم يكن فيها ما يفرح، صحيح أنها كانت آمنة وسلسة وسهلة، وهذا مجرد حظ، فالإرادة السياسية لجاستين ترودو سمحت للكثير من السوريين بالنجاة المؤقتة، لكن الفكرة التي طاردتني بفجاعتها منذ وصولي كانت أن الحرية أو الثورة هما أعلى أشكال الانتماء، وأنك لا تثور إلا على مكان يخصك ويعنيك، فالغرباء لا يصنعون ثورة، فأنت تصل أمكنتك الجديدة فتقبل كل ما يطرح عليك، في سنواتك الأولى لا ولن تستطيع مناقشة القوانين مهما تكن، عشت في باريس، دبي وبيروت، وبعد ذلك مونتريال، لم أفكر مرة إلا بالامتثال للقوانين، وكنت شخصاً مسالماً، مطيعاً، دون شغب ولا مغامرات، لكن مع مرور الوقت -أربع سنوات- ومع ازدياد إحساسك بالمواطنة مع اشتباكك بالواقع، مع العمل، مع اقتناعك أنك جزء من المكان تبدأ بالمطالبة بالتغيير والاعتراض على ما لا يعجبك، وهذه الحقيقة الواضحة بدت لي فيما بعد قاهرة، خاصة بعد الذي عاشه معظمنا في البلاد، من حملات التخوين والتشكيك بوطنية من ثار من السوريين أو اعترض على أوضاع بلده، واتهم بالعمالة، بينما تدرك أن الوطنية الحقة هي من تفرز رأياً، والانتماء المطلق هو الذي يدفعك للتمرد.
الأرشيف النفسي وزمن التحضير لشخصيات العمل وضعهم تحت بؤرة كشف قبحهم.. كيف عملت على التحضير لهكذا نفوس؟
العمل على شخصيات خليل داغر وأسامة وحتى ياسمينا أتى بشكل طبيعي، وبشكل عام شعرت أني أتناول شخصيات أعرفها، أعرف حوافها، تعرّجاتها، أعماقها ونهاياتها. بنيت "خليل" كروح عاشت مثالية وأصالة الستينيات، وشربت وتبنّت ابتذال الثمانينيات، هو طبيب عام، تحول بضربة حظ إلى طبيب تجميل مما كرسه كنجم مجتمع على موائد ضباط الأمن وتجّار الهواء، شخصية ريفية متعلمة، قهرت أمام أصالة عمارة مدنية، مكتملة لا رخص فيها، خليل شعر أنه يريد أن يكون جزءا من هذا البهاء، فاقترن بمارلا وبالبيت وبالشام، أما مارلا فلم استطع اصطيادها إلا عندما أصبتها بالسرطان، كتبت عن امرأة تبهرك بقوة شخصيتها، امرأة تستطيع جرح ابنتها، هجرها، وهجر حبيبها الوحيد لمجرد أنها تريد أن تكون أكثر سعادة في حياة لم تكن أصلا تعيسة فيها.
هل الرواية التي تقدمها "ياسمينا" تقرأ كمتتالية للسقوط بالمعنى الأخلاقي أيضا؟
لا أعلم الحقيقة، ما أعرفه أن الشخصيات في الكتاب عاشت واقعاً غير أخلاقي، غير إنساني، فتصرفت حسب معطيات ذاك الواقع، طُلب من ياسمينا أن تتصرف كآلهة، بينما ما يميز البشر ضعفهم، خوفهم. فأتت الحكاية كصرخة من أجل احترام الضعف البشري. هناك من أفشى بأسماء أصدقائه أو أبنائه أو زوجته تحت التعذيب، بحتمية سيعيش هذا الإنسان موصوماً بما فعل، بينما من يجب أن يوصم هو من فرض عليه ذاك الشرط اللاإنساني، فالبطولات هي أفعال آلهة لا بشر، لكننا نوصم دوماً بضعفنا، ولهذا مشت ياسمينا مترنحة، مثقلة، كمن يحمل كيس جثث في وجدانه، بعدما تركت حبيبها للاعتقال، ووالدها للموت، ثم تركت ذاتها للغربة، وكي تنجو من تلك التركة الفظة، تركت جسدها للسقوط.
aXA6IDMuMTM3LjE3OC4xMjIg جزيرة ام اند امز