يحل اليوبيل الذهبي أو الذكرى الخمسين لحرب مصر والعرب المجيدة في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973، لكي تعيدنا جميعاً – نحن المصريين والعرب – بما استطعنا معاً إنجازه في هذا اليوم العظيم في تاريخ أمتنا العربية الحديث كله.
لم تكن حرب أكتوبر/تشرين الأول مجرد معركة أو فصل في حرب حول أرض أو مصالح اقتصادية أو سياسية، بل كانت نقطة فاصلة حاسمة في تاريخ طويل سبقها بأكثر من ربع قرن من حروب كبرى ترتب عليها تغيرات جوهرية في السياقين الجغرافي والاستراتيجي في وطننا العربي والمنطقة كلها، بل والعالم بأسره، حرب 1948، وبعدها حرب 1956، ثم حرب وهزيمة 1967 المرة الثقيلة.
كان انتصار أكتوبر/تشرين الأول المصري والسوري المدعوم بقوة وإصرار من كل الأشقاء العرب حينها، شعوباً وحكومات، هو الأول من نوعه في هذا السياق التاريخي العسكري - السياسي الطويل والموجع، وأكد معاني كثيرة أفاض في الحديث عنها وتفصيلها آلاف من المقالات والكتب والتحليلات والشهادات التاريخية والوثائق الرسمية، تؤكد كلها على قدرة هذه الأمة وجيوش بلدانها الرئيسية، خصوصاً الجيش المصري، على أن تستعيد عافيتها وتتحول بعدها إلى فاعل رئيسي معترف به في الإقليم والمنطقة المحيطة بعالمنا العربي وكذلك دولياً، سواء عبر مختلف دوله أو عبر كيانه العربي الجمعي.
والحقيقة أن مرور تلك الأعوام الخمسين على هذه الحرب المجيدة يمكن النظر إليه أيضاً من زاوية أخرى مهمة تتعلق بالتاريخ المصري الحديث، وتربطها بمفاصل أخرى حاسمة فيه، وتجعل هذا الانتصار ضمن سياق تاريخي أوسع وأبعد. ولنأخذ مثالاً ووسيلة لهذا، وحدة زمنية قوامها 50 عاماً، نرجع بها مع الزمن للوراء لكي ندرك حقيقة ارتباط انتصار أكتوبر/تشرين الأول بما قبله من أحداث مفصلية في ذلك التاريخ.
ولنبدأ بما قبل حرب أكتوبر بمائة وخمسين عاماً، وبالتحديد في عام 1823، فكل المؤرخين يجمعون على أن التاريخ الحديث لمصر يبدأ مع تولي محمد علي باشا حكم مصر عام 1805، حيث بدأ تجربته الهائلة في بناء الدولة المصرية الحديثة داخلياً وخارجياً.
وعلى الصعيد الخارجي، أسس الوالي الجيش المصري الجديد وبنيته التحتية من مصانع أسلحة وخبراء أجانب متخصصين لتدريبه، وبدأ ومعه ابنه القائد إبراهيم في التمدد العسكري جنوباً في أفريقيا وشرقاً في الجزيرة العربية وشمالاً في اليونان وكريت وفي الشمال الشرقي نحو تركيا. ولكي يحدث كل هذا، أنشأ الوالي أول مدرسة حربية في مصر عام 1820، وفرض بعدها للمرة الأولى في تاريخها الحديث، التجنيد الإجباري عام 1923، لكي يتشكل الجيش في مصر فقط من أبنائها، ضباطاً وجنوداً، وليكون هذا هو النواة التي انتصر خلفها في حرب أكتوبر 1973 بعد 150 عاماً.
وبعد خمسين عاما أخرى، وفي عام 1873، كان حاكم مصر هو حفيد محمد علي، الخديوي إسماعيل، الذي اختلفت حوله الآراء فيما يخص سياساته الداخلية، بينما قل هذا كثيراً فيما يخص سياسته الخارجية. وكان هناك جزآن مهمان في هذه السياسة الخارجية هما، السعي نحو المزيد من الاستقلال عن الخلافة العثمانية، واستكمال توسعات والده القائد إبراهيم جنوباً في السودان وحوض النيل.
وحصل الخديوي على عدد من الفرمانات من الخليفة العثماني، كان أهمها ذلك الصادر عام 1873 الذي نص على مجموعة من المواد، منها امتداد الحدود المصرية لتشمل السودان، وحق مصر في سن القوانين الداخلية وعقد المعاهدات التجارية والجمركية والاقتراض الخارجي دون الرجوع إلى الخليفة.
وكان الحق الأهم هو رفع أي قيد على عدد جنود الجيش المصري، وامتلاكه حق بناء السفن الحربية مع اشتراط الحصول على إذن من الخليفة حال صناعة المدرعات أو الحصول عليها. وهكذا، يبدو واضحاً أن هذه الخطوات التي تمت بعد 50 عاماً من تلك التي تمت عام 1823، أفضت كلها وسارت بمصر وجيشها بعد 100 عام نحو نصر أكتوبر/تشرين الأول 1973.
وبعد خمسين عاماً أخرى، عام 1923، شهدت مصر حدثاً سياسياً تاريخياً في تطورها السياسي الحديث، حيث صدر في أبريل/نيسان من هذا العام دستورها الديمقراطي المتكامل الأول والمعروف باسم دستور 1923، وذلك عقب صدور تصريح 28 فبراير/شباط عام 1922 من بريطانيا، الذي اعترف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة. وقد وضعت هذا الدستور لجنة مكونة من ثلاثين عضوا ضمت ممثلين للأحزاب السياسية والزعامات الشعبية وقادة الحركة الوطنية، الذين أفرزتهم البلاد بعد ثورة 1919، ليمثل خطوة مركزية في تطور التاريخ السياسي الداخلي لمصر حتى اليوم.
إذاً، المحطات الثلاث السابق ذكرها وبين كل منها والأخرى 50 عاماً، هي نفسها المدة التي مرت على حرب أكتوبر/تشرين الأول العظيمة حتى اليوم، وهي كلها تؤكد أنها لم تكن حرباً في الفراغ، بل سبقها تاريخ طويل مترابط من التطور العسكري والسياسي الثري العميق في مصر، وهو ما أفضى في النهاية لهذا الانتصار المجيد، الذي أحاطته بدعمها ورعايتها أمتها العربية كلها، شعوبها وحكوماتها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة