كثيرا ما تتردد على مسامعنا مقولة "فاقد الشيء لا يعطيه"، ولكن هناك حالات حولنا تثبت أنه يمكن لفاقد الشيء أن يعطيه، وبسخاء.
ذات يوم صادفت قناة على "يوتيوب" تدعى "أبي! كيف أفعل ذلك؟".. تقدم محتوى تعليميا عمليا للأطفال.. لم أُعِرها انتباها.. فهناك كثير من القنوات تقدم هذا المحتوى، لكن منشورًا آخر على "فيسبوك" عن شخص أمريكي يدعى "روب كيني" -مؤسس هذه القناة- يتحدث عن ظروف نشأته في نبذة بسيطة، أثار فضولي للقراءة أكثر حوله لمعرفة مَن هو.
ذكر المنشور أن "كيني" قال في إحدى المقابلات إن والده تركه منذ صغره، وكانت هناك أشياء كثيرة لم يتعلم أداءها بعد في الحياة، كما لم يكن هناك أحد معه ليخبره كيفية التصرف إزاءها، فما كان منه إلا أن أنشأ هذه القناة ليساعد الأطفال الذي يمرون بمثل ظروفه.
بحثت وراء شخصية "روب كيني"، فوجدت أن والده تركه صغيرًا.. كان لديه 7 أشقاء آخرين.. انتقل إلى العيش مع أخيه وزوجته وهو في سنّ 14.
لم يكن لديه مثل أعلى يعلمه الأشياء الأساسية للتعامل مع الحياة.. وجد صعوبة في تعلم كل شيء.
كبر "كيني" وصارت له عائلة.. أنجب بنتا وولدا.
مع ظهور جائحة كورونا وحظر التجوال، قرر "كيني" أن ينشئ قناته لتقديم نصائح عملية للأطفال والدعم النفسي لهم، وانتشرت فيديوهاته على وسائل التواصل الاجتماعي.
يتضمن محتوى قناته نصائح للصغار والمراهقين حول كيفية القيام بالحِلاقة أو ربط رابطة العنق والطهي وبعض الأعمال المنزلية البسيطة، وأيضا بعض الدعم النفسي للأطفال الذين تركهم آباؤهم، ما دفع كثيرين لإطلاق لقب "بابا الإنترنت" عليه، لما يقدمه من خدمة إنسانية عظيمة للأطفال.
هل كان بوسع "كيني" أن يفعل إلا ما فعل؟
لقد فقد أباه ومثاله الأعلى، لكنه حين حانت اللحظة لم يدخر جهدا ولم يبخل بنصيحة أو علم، كل ما افتقده حاول أن يعوض الآخرين عنه.. كان يمكن ألا يفعل.. كان يمكن أن يحاول الانتقام، حسبما تقول الدوافع النفسية.. لكنه اختار أن "يعطي" مما افتقد.
على مستوى الدول أيضا -وليس الأفراد فقط- يصح أن نتتبع مبدأ "فاقد الشيء"..
فلدينا أفغانستان مثالا تاريخيا لعدم القدرة على الشعور بالأمن والاستقرار.
مرت أفغانستان منذ نشأتها بمراحل عصيبة وانقلابات منذ أن غزاها البريطانيون من 1838 إلى 1842 ونصبوا شاه شوجاه ملكا عليها.. ثم في عام 1933 أصبح محمد ظاهر شاه ملكا على أفغانستان. وبعد ذلك ينقلب عليه السردار محمد داوود خان، ويعلن قيام الجمهورية الأفغانية، وفي عهده حدثت اضطرابات داخلية مع القوى الشيوعية.
ومع زيادة الاضطرابات داخل أفغانستان وعدم قدرة الحكومة على السيطرة، استنجدت بالحليف، الاتحاد السوفييتي.
وفي عام 1979 استجاب الاتحاد السوفييتي وقام بغزو أفغانستان لدعم الحكومة، ليبدأ فصل مأساوي في تاريخ أفغانستان.
وجدت الولايات المتحدة في غزو الاتحاد السوفييتي لأفغانستان فرصة لإضعافه واستنزافه، وسعت بمساعدة بعض الدول لمواجهة الاتحاد السوفييتي، وذلك عن طريق إرسال مقاتلين وسلاح ودعم مالي لأفغانستان.
وفي عام 1989 انسحب الاتحاد السوفييتي من أفغانستان بعد هزيمة مدوية كانت إحدى أهم أسباب تفككه.
وبعد الانسحاب بدأت حرب أهلية في أفغانستان حتى سيطرت حركة "طالبان" على الحكم عام 1996.
وبعد أحداث 11 سبتمبر، قررت الولايات المتحدة غزو أفغانستان عسكريا وأطاحت بنظام "طالبان".. وظلت الولايات المتحدة تحارب في أفغانستان حتى قررت -كما تابعنا على الهواء- انسحاب قواتها من هناك عام 2021، لتعود سيطرة "طالبان" على حكم أفغانستان.
هنا نعود إلى تساؤلنا: هل بإمكان أفغانستان بعد كل هذه المراحل المتأرجحة بين ضياع واستقرار ثم ضياع أن تعطي غيرها ما افتقدته؟
لقد انتظر العالم منها أن تصدر الأمن والاستقرار، وهو ما افتقدته على مدى تاريخها الحديث المليء بالاضطرابات والعنف!
هناك أشخاص مثل "كيني" عاشوا تجارب قاسية في طفولتهم، ولكنه قرر أن يساعد كل من مر -أو سيمر- بهذه التجربة عن طريق تقديم الدعم، وبسخاء.. أما بالنسبة لأفغانستان فهي دولة باحثة عن جنة الاستقرار المفقودة، فقد رُسمت لها سيناريوهات -أمريكية- تارة بالغزو وتارة بالترك في الفوضى.
الخلاصة هنا عبر حكايتَي "كيني" وأفغانستان، وإن كان التشابه بينهما غريبًا، أنه لا حلول يمكن إجبار البشر عليها ليختاروها.. لكنها الإرادة الحرة النقية وحدها، إذا ما تهيأت الظروف، بإمكانها أن تجعل النفس تتجه إلى يمين أو يسار.. فاختر مصيرك ومسارك كيفما شئت.. لكن تذكر أن محو مرارة التجربة قد يأتيك عبر مساعدة الآخرين، وليس عبر الانتقام منهم ومن العالم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة