تمضي الأيام ثقيلة على الشعب الفلسطيني عموما وعلى سكان غزة بشكل خاص، يتلمسون أفقا أو بارقة نور لليلهم الطويل المسكون بالرعب والحافل بشتى طرق الموت وأساليبه.
دماء الضحايا وغبار الحرب هما العنوان الأبلغ تعبيرا عن استمرار محنتهم، في غزة تجري صياغة رسائل الموت ببرودة ضد قطاعات واسعة من المدنيين، الذين كانوا ذات مساء سابق على السابع من أكتوبر الماضي آمنين، أو تخيلوا أنهم كذلك.
على جزء من أرض فلسطين يتم تدوين فصل جديد، بل إضافي على صفحات مجلدات فصول قضية مفعمة بنبض الحياة وتوثب الروح التي لم تطفئ وهجها كلُّ مبتكرات معامل السلاح ومنتجات تدمير الحجر والبشر التي تحوزها إسرائيل، إنها قضية إنسانية بلا جدال، هي كذلك؛ لأنها قضية شعب يحوز جميع مقومات الحياة التي ترشده إلى مقاومة الموت أيا كان مصدره، وتشد أزره في صناعة حاضره.
هي قضية تاريخ منحتها قوانينُ الطبيعة وجودها الأول، لذا فهي قوانين ملتزمة، بل ملزَمة بأن تحافظ عليها لكي تدفع عنها الفناء أو الاندثار، وتمنع العابثين من المقامرة بها، وتقطع الطريق على الساعين إلى رميها في غياهب النسيان.
فلسطين قضية الغد الدائم الذي يتجدد مع إشراقة شمس كل يوم، في هذه الجولة من الحرب تساوى لدى الفلسطينيين الليلُ بالنهار طالما أن الموت مرجَّح الحضور بشكل مفاجئ وغادِر، إما تحت جنح الظلام وإما تحت ضوء الشمس الساطعة.
ميدان الصراع له منطقه وحساباته التي لا تقتصر على طرفي المواجهة، كما كان الحال دائما على مدار سبعة عقود ونصف من عمر القضية الفلسطينية، هل تغيرت أولويات اللاعبين في مقاربات القضية، أم استُحدثت مصالح جديدة من قبل البعض ففرضت أساليب مغايرة لما كان معهودا في فترات سابقة؟ أياًّ تكن المؤثرات الخارجية، وأياًّ تكن مصالح الآخرين المتبدلة فذلك لا يغير في جوهر القضية شيئا، قد تحدث تصدعات في جسدها الواحد، وربما تحدث شروخات واسعة بين مكوناتها لكن دون أن تمس جوهرها.
في خضم الحرب، وفي خضم انهماك الفلسطينيين في إحصاء عدد ضحاياهم ومفقوديهم، تتعلق الأنظار بمآلات الداخل الإسرائيلي بعد أن أماطت حرب غزة اللثامَ عن مشاكل جدية تواجه حكومة نتنياهو وطاقمه اليميني المتطرف ليس فيما يتعلق باستمرارهم في السلطة من عدمه فحسب، بل تتجاوزها إلى مسألة إعادة التفكير بالنهج السياسي الإسرائيلي العام حيال القضية الفلسطينية على المستويات السياسية والقانونية والتاريخية، أي قضية الدولة الفلسطينية ومسألة التعايش جنبا إلى جنب مع إسرائيل.
باتت أصوات قطاعات واسعة من الإسرائيليين تفصح عن هواجسها وقلقها إزاء مستقبلهم واستقرارهم وسلامهم، وترسم إشارات استفهام حول قدرة السلطة الإسرائيلية الحالية على تأمين كل ذلك في حال استمرت بتجاهل إنجاز مشروع سلام مع الفلسطينيين يضمن أمن الجانبين ويطوي صفحة الصراع بينهما، ويكون مدخلا لأمن الشرق الأوسط واستقراره.
كثيرة هي السيناريوهات التي رسمتها جولة الصراع الراهنة بين الفلسطينيين وإسرائيل للمرحلة التالية، سواء ما تعلق بالجانب الإسرائيلي أو ما تعلق بالجانب الفلسطيني، وبدا واضحا أن السيناريو الذي استحوذ على اهتمام الجميع، وانتزع من الغالبية اعترافا صريحا، وعَكَسَ التفاف المجتمع الدولي حوله؛ هو جوهرية الحل المستدام للصراع على قاعدة حل الدولتين، استنادا إلى القرارات الدولية الناظمة لذلك، وما تضمنته المبادرة العربية إبان قمة بيروت عام 2002 بهذا الخصوص.
ليس من شك في أن الطريق الموصل إلى هذه الغايات النبيلة محفوفةٌ بالمخاطر والمفخخات التي هي من صنع بعض اللاعبين المحليين لدى الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، ومعرضةٌ لشتى أنواع التعطيل والتشويش من جانب قوى خارجية تجد مصالحها في إطالة أمد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي واستتباعا الصراع العربي الاسرائيلي، بهدف استغلاله في الوصول إلى أهدافهم التي تتناقض مع مصالح الأطراف المعنية مباشرة بالصراع.
الحديث عن مرحلة ما بعد حرب غزة بات يفرض نفسه على القوى العربية والإقليمية والدولية برمتها، وربما لأول مرة يتحول الإسرائيليون من ظاهرة التسليم لقياداتهم بإدارة الصراع، إلى التفكير بغدهم انطلاقا من اعتراف ضمني بحق الآخر بالوجود والاستقلال والحياة، وهما عاملان محفزان لكي تتقدم السياسة على المدافع.
تناقضُ المصالح، وتباين أساليب الوصول إلى الأهداف تحكمها حسابات الربح والخسارة، وكذلك دوافع النفوذ والمكانة بين الدول، لكن فلسطين، القضية، أثبتت أنها معراج السلام في حسابات الجميع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة