السؤال الذي يطرح نفسه اليوم فيما يخص مواقف دول العالم الغربي إزاء ما يجري من عدوان إسرائيلي دموي على غزة وما يمر به أهلها من أوضاع كارثية غير مسبوقة، هو: هل تستطيع هذه الدول أن تفعل شيئاً لوقف العدوان وإنقاذ أهل غزة؟
ويرفض بعض السياسيين والمحللين هذه الصيغة للسؤال، مستبدلين إياه بسؤال آخر، وهو: هل تريد هذه الدول حقيقة أن تفعل شيئاً لوقف العدوان وإنقاذ أهل غزة؟ والحقيقة أن السؤالين مرتبطان بصورة وثيقة، فالاستطاعة مرتبطة بالإرادة من عدة جوانب، وذلك وفق أوضاع كل دولة أو مجموعة من الدول. فمن الواضح اليوم وبعد أكثر من شهرين ونصف الشهر من بدء العدوان، أن هناك تغيرات في مواقف كثير من تلك الدول الغربية، مما يجري في قطاع غزة.
فمنذ بدء العدوان الإسرائيلي على القطاع وحتى دخول قواته البرية في الـ27 من أكتوبر الماضي، ظلت مواقف الدول الغربية كلها تقريباً بقيادة الولايات المتحدة منحازة تماماً للرؤية الإسرائيلية وداعمة كلياً لما تسميه "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، ومعطية جيش الاحتلال كل الحرية في ممارسة شتى صور العدوان على القطاع، بحجة الانتقام من هجوم الـ7 من أكتوبر، وسعياً للقضاء التام على هياكل حركة حماس وفصائل المقاومة، وإسقاط حكمها للقطاع، وتحرير الإسرائيليين والأجانب المحتجزين لديهم أحياء سالمين.
إلا أن الأسبوعين التاليين للحملة البرية أوضحا بجلاء فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق هذه الأهداف، وأوضحا أكثر حجم واتساع المأساة الإنسانية التي تسبب بها العدوان الإسرائيلي، الجوي والبري والبحري، لأهل قطاع غزة وكل ما بها من بنية تحتية ومساكن مدنية ومرافق صحية وتعليمية ومؤسسات أممية وعاملين بالصحافة والإعلام. وراحت الخسائر البشرية الهائلة من عشرات الآلاف ممن لقوا حتفهم أو أصيبوا بإصابات متنوعة معظمها بليغة أو من المفقودين تحت الأنقاض، التي أصبحت مصير نحو 60% من مباني القطاع. منذ هذا الوقت، بدأ التغير في مواقف غالبية الدول الغربية تحت تأثير تغطية الإعلام، التقليدي والجديد بطريقة مكثفة لكل هذه المآسي، وبفعل التحركات الشعبية المتواصلة للمحتجين على العدوان الإسرائيلي في معظم عواصم ومدن دول التحالف الغربي.
اتخذ التغيير منحى أكبر في الأسابيع التالية، وصولاً إلى الحديث مؤخراً من مسؤولين كبار في دول أوروبية غربية رئيسية عن ضرورة السعي لوقف فوري لإطلاق النار والعدوان في غزة. وكان قد سبق هذا تشجيع بعض هذه الدول علناً على "هدن إنسانية" تتيح وقفاً مؤقتاً لوقف إطلاق النار وإدخال قدر -ولو صغير- من المساعدات الإنسانية والإغاثية لسكان غزة المنكوبين. وبدت ملامح هذا التغير، الذي ارتكز على التعاطف الإنساني مع أهل غزة وليس التأييد السياسي لهم والمعارضة لإسرائيل، واضحة في المواقف التي اتخذتها كثير من الدول الأوروبية في التصويت بمجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة.
إن هذا المسار الذي يبدو إيجابياً في المواقف الغربية تجاه ما يجري في غزة، لا يمنع من التمييز بين اتخاذ مثل هذه المواقف ذات المنطلق الإنساني والتي تتجه كلها نحو الهدن الإنسانية أو وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية، وتصور أن تتحول هذه المواقف إلى إدانة سياسية لإسرائيل وعدوانها أو إلزام لها بقرارات أممية بوقف فوري لإطلاق النار.
فالأرجح هو أن تستمر المواقف الغربية، وفي مقدمتها الموقف الأمريكي، على هذا النحو، وألا تخرج عن هذا المسار، ولن تتحول إلا في حالات نادرة من الدول، نحو إدانة إسرائيل وعدوانها وإلزامها بوقف العدوان. ولأسباب تاريخية وسياسية معقدة تخص علاقات الدول الغربية بإسرائيل وبالجاليات اليهودية في هذه الدول، يظل الحاسم في احتمال تغير مواقفها من العدوان الإسرائيلي، هو المدى الذي يمكن أن يصل إليه في "إحراج" هذه الدول على صعيد الالتزام بالقانونين الدولي والإنساني، وكذلك بما يمكن أن يوصله العدوان من توسيع خطر لدائرة الصراع إقليمياً ودولياً، وأخيراً بأن يوصل الدولة العبرية إلى مرحلة يمكن أن تمثل خطراً حقيقياً عليها، عندها سنرى مواقف أخرى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة