"الشيخ زايد" يكفكف دمع "فرحة" الفلسطينية ابنة النكبة والتيه
الحاجة فرحة تروي لـ"العين الإخبارية" تفاصيل النكبة كما عاشتها
تسترجع الحاجة فرحة العطية 74 سنةً من التيه والعذاب، حيث بدأت بصيحات وهرج ومرج بالكاد تسعفها ذاكرتها على استحضارها، في ذاك اليوم لم تكن تتجاوز الرابعة من عمرها، وعقلها الصغير لا يستوعب ما كانت تشاهده عيناها وتسمعه أذناها، الجميع يهربون، من عصابات الهاغانا الصهيونية، التي تقتل وتذبح وتدمر كل قرية تقتحمها، تتذكر جيداً تلك اللحظة السوداء التي ارتبطت بفقدانها والديها وكل أسرتها.
تقول الحاجة فرحة لـ"العين الإخبارية": هذا اليوم الذي هُجّرنا فيه من قريتنا "المغار " القريبة من الرملة (شمال غرب القدس) يجتاحني كلما عزلت نفسي عن الناس، أو وضعت رأسي على وسادتي في ليل، لأنه اليوم الذي انقلبت فيه حياتي رأساً على عقب، فقدت الأمن والأمان، الأم والأب والعائلة.
تواصل وعيونها تسرح بعيداً إلى ما قبل سبعين سنة "كان أحدهم يسحبني من يدي بسرعة حتى كادت يدي الغضة أن تنسلخ عن جسدي الصغير ، ولكن دون والديَّ اللذين اختفت آثارهما وسط حشود الناس الذين ملأوا الطريق بالخطى والصراخ، الذاكرة تخزن والقلب الذي تعب من الانتظار يرتب الحنين على من تاهت آثارهم، وأصبحت قبورهم كإبرة في كومة الكون".
اللاوعي في العربة والنهر
تروي الحاجة فرحة لـ"العين الإخبارية" تفاصيل النكبة كما عاشتها ، " كان منزلنا مبنيا من طين وقش، كان فيه بعض الناس الذين لا أعرف طبيعة صلتي بهم، كل ما أتذكره أن يدي كانت بيد شخص أكبر مني، عندما سمعنا الأصوات في خارج البيت، تدعونا للهروب، فالعصابات اليهودية قادمة لتقتل وتدمر وتحرق كل شيء.
وتواصل "لم أدرك وقتها ما يحدث، وقعت أرضاً من شدة الخوف وأصبحت وحيدة بعد أن واصل من كان يمسك بيدي الهروب بعيداً، نهضت لأجد نفسي وسط بحر من البشر، يهيجون ويموجون، بأقدامهم العارية، وملابسهم البالية، ومفاتيح منازلهم وبعض ما استطاعوا أن يحملوه من مؤن، لتلتقطني يد شيخ كبير ويحملني من وسط الزحام على كتفه، ويركض بي، حتى وصلنا عربة حُشيت بالهاربين، وأمسكني واحدٌ منهم، لأصبح في جمع لا أعرفه، لتسير العربة في اتجاهات متعددة، وأنا أبكي من شدة الخوف، وضياع الأم والأب".
المنفى القصير
تقول الحاجة فرحة "وصلنا في اليوم التالي من الهجرة إلى مكان يقال له (الجسر)، ومشيت مع زمرٍ تائهة الى الضفة الأخرى(الأردن)، ولأنني تخطيت النهر كان لزاماً على أمن الحدود أن يقيد لي اسماً وكنيةً، فتبرع من احتضنني طيلة الرحلة بتسميتي فكان اسمي (فرحة حسن محمد العطية) ولأن العربة التي حملت كل هؤلاء الناس، حملتهم من قرى متعددة، ومن مدينة الرملة، كلما دخلت قرية وجدت إناس معرضين للقتل فحملت بعضهم، وهي في طريقها الى (الجسر) حيث الحدود مع الأردن.
هجرة وفقد
تواصل الحاجة فرحة سرد قصتها لـ"العين الإخبارية" فتقول: كبرت في بيت لا أعرف أهله، ولكنني نسيت أيام المغار، وكل ما كنت أطلبه ممن تكفلوا بي، أن يعيدوني إلى والدتي ووالدي، ورغم محاولاتهم مساعدتي، والسؤال عن أهل قريتي، إلا أنهم لم يجدوا لهم أثراً ، فأغلب الظن أنهم قتلوا برصاص العصابات اليهودية، والبعض قال ربما ذهبوا إلى يافا ومن هناك إلى لبنان أو سوريا أو غزة عبر البحر، حيث كانت العصابات الصهيونية تسهل هجرة الفلسطينيين، وتطردهم إلى خارج فلسطين عبر المنافذ الجغرافية.
فرحة التي لا تعرف إن كان هذا هو اسمها الأول، أم أنه تسمية الغريب لها، عندما كبرت وبدأت تدرك ما يحدث، حصلت بمساعدة متكفليها على بطاقة (التموين) من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، فقررت العودة عبر الجسر، وحيدة، بدون أن تخبر أحداً، فتقول :"هربت في ليلة ما فيها ضي قمر" ، وركبت في سيارة ومن ثم سيارة فسيارة، حتى وصلت النهر وعدت إلى فلسطين، ودخلت القدس، وهناك تعرفت على بائع أجبان، ورويت له قصتي، فعطف علي، وأخذ بيدي وعرفني على أسرته، وبدأت أعمل معه حتى كبرت وأصبحت في السادسة عشرة من عمري، ورحت أعيل نفسي بنفسي، واستأجرت غرفة صغيرة، وعشت فيها بلا عائلة أو أهل ، حتى تعرفت على زوجي وأنا في السابعة عشرة من عمري، وتزوجني، لأعيش معه في مخيم الدهيشة بمدينة بيت لحم حيث يسكن، فكان لي كل الأهل.
"الشيخ زايد" المرفأ الأخير
الحاجة فرحة، التي تسكن اليوم في مدينة (الشيخ زايد) شمال قطاع غزة، والتي ارتسمت سنون وجعها وعذابها على مدار سنوات النكبة السبعين، من هجرة وتيه وفقد للأهل والاسم والبلد على ملامح وجهها، تحمل بداخلها قوة و إصرارا على مواجهة الأقدار، وتحمل أعباء الحياة، فبعد زواجها من أحمد التلحمي، كونت أسرة كبيرة، وأنجبت ست بنات وثلاثة أولاد، استشهد أكبرهم برصاص الاحتلال في عام انتفاضة القدس 2000م، ومات زوجها، فاضطرت إلى هجرة ثانية، ولكن هذه المرة إلى قطاع غزة، حيث مأوى شقيق زوجها وعائلته، لتعيش وأسرتها سنوات طويلة داخل غرفة صغيرة، إلى أن ابتسم لها القدر عن طريق إعلان بسيط قرأته لها حفيدتها، فقررت أن تسعى لتكون مالكة شقة سكنية في مدينة الشيخ زايد.
ومع سعي الحاجة فرحة لكي تستفيد من مشروع الشيخ زايد لإسكان الأسرة الفقيرة والمعسرة، بدعم إماراتي سخي، والذي بدأ تنفيذه في عام 2002 وانتهى في عام 2004، سارعت لتقديم الطلب، ليكون اسمها ضمن المستفيدين من المشروع رغم اكتمال العدد، ولكن بعد أن سمع قصتها الشيخ خليفة السويدي مسؤول الهلال الأحمر الإماراتي، وجد أنها الأكثر استحقاقا للمأوى، فوفر لها بمساعيه الحميدة الشقة السكنية.
الحاجة فرحة التي رسمت ملامحها النكبة الفلسطينية، وحفرت الآلام مسار حياتها، وضياع أهلها، تجد عزوتها في أولادها، وأحفادها اليوم، وتحمد الله على كل ما أصابها، مترحمة على روح الشيخ زايد، في كل صلاة لأنه كان سببا في جمع شتاتها وبناء وطن صغير لها بعنوان واضح ومعروف، من بعد أن فقدت كل العناوين.
aXA6IDMuMTQzLjIwMy4xMjkg جزيرة ام اند امز