"برلمان مصر".. 150 عاما من الحياة النيابية
مصر تحتفل الشهر الجاري بمرور قرن ونصف القرن على بداية الحياة النيابية بها، تعرف على أبرز المحطات في تاريخ البرلمات المصري
في عصر يوم 19 أغسطس/آب عام 2008، وبينما كانت ألسنة اللهب تتصاعد من شرفات المبنى التاريخي للبرلمان في وسط القاهرة، انقسم المصريون بين نخب أفزعها مشهد تلاشي القسم الأهم من تاريخ البلاد السياسي تحت وطأة الإهمال، وبين مواطنين أطلقوا العنان لسخرياتهم اللاذعة.
أضاء هذا الانقسام جانب من مسار العلاقة المعقدة بين الشعب ونوابه. وقد احتاج رجال الإطفاء ست عشرة ساعة لإخماد النيران، فيما احتاج المصريون أنفسهم ثلاث سنوات أخرى لإشعال الحريق.
وبينما كان الملايين يحتفلون على مرمى حجر من المبنى الأثري للبرلمان الذي تأسس عام 1866 بنجاح ثورة 25 يناير 2011، وضع الإعلان الدستور الذي أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة في فبراير 2011 حدا لما يمكن اعتباره الحقبة الثالثة في تاريخ الحياة النيابية بمصر التي تحتفل الشهر الجاري بمرور 150 عاما على ميلاد أول برلمان بها.
بنصف يقين، ينظر المؤرخون إلى "المجلس العالي" الذي أنشأه محمد علي باشا والي مصر (1805-1848) كبداية لأول مجلس تمثيلي تشهده مصر.
فالمجلس الذي تأسس عام 1824 وكان بعض أعضائه منتخبين من بين أعيان المديريات (المحافظات)، وتألف من 48 عضوا، بدا كمحاولة أولى تبددت أصدائها مع طغيان صوت محمد علي باشا على الرواية التاريخية، كما أن دوره انحصر في مناقشة ما يراه أو يقترحه الباشا فيما يتعلق بسياسته الداخلية.
لكن تجربة المجلس العالي قادة في نهاية المطاف لتأسيس مجلس المشورة بعد خمس سنوات، وقد بدا هذا المجلس كجمعية عمومية مؤلفة من 156 عضواً؛ منهم 33 عضوا من كبار الموظفين وعلماء الأزهر، و24 عضوا من مأموري الأقاليم، و99 عضوا من كبار أعيان البلاد يتم اختيارهم عن طريق الانتخاب.
وفي عام 1837 يؤسس محمد علي للأزمة التي ستظل تهمين على النخب المصرية مع كل عملية إعادة تنظيم للحياة السياسية، ففي ذلك العام قرر الباشا إلغاء مجلس المشورة واستبدله بمجلسين؛ "المجلس الخصوصي" الذي يتولى سن القوانين، و"المجلس العمومي" الذي أنيط به مناقشة ما تحيله إليه الحكومة من أمور.
وبحلول عام 1866 يبدأ التقويم الرسمي للحياة النيابية في مصر مع تأسيس "مجلس شورى النواب" في عهد الخديوي إسماعيل. وقد صدر مرسوم إنشائه في نوفمبر/ تشرين ثاني، قبل قرن ونصف القرن. وتضمنت لائحة المجلس الأساسية 18 مادة اشتملت على نظام الانتخابات، والشروط القانونية الواجبة للياقة العضو المرشح، وفترات انعقاد المجلس، وتكون من 75 عضوا منتخبا من قبل الأعيان: في القاهرة، والإسكندرية، ودمياط، وعمد البلاد ومشايخها في باقي المديريات الذين أصبحوا بدورهم منتخبين لأول مرة.
وانعقد مجلس شورى النواب في تسعة أدوار انعقاد شهدت ثلاث هيئات نيابية، واستمر حتى عام 1879 حينما أصدر الخديوي توفيق قرارا بفضه، ليؤذن بتطورات جديدة في المشهد السياسي انتهت باندلاع "الثورة العرابية"، التي استقرت على انتخاب مجلس وفق لائحة 1866 وعدلت اسمه ليصبح "مجلس النواب المصري" وأصبحت مدة انعقاده خمس سنوات.
وتهاوى مجلس النواب المصري تحت وطأة قصف المدفعية البريطانية لقلاع الإسكندرية عام 1882. ومع إعلان الاحتلال البريطاني ألغي القانون الأساسي، وصدر ما سمى بالقانون النظامي الذي تأسس بموجبه مجلسين هما: "مجلس شورى القوانين" و"الجمعية العمومية". وفي يوليو/تموز عام 1913 تم إلغاء مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، وتأسست الجمعية التشريعية التي تكونت من 83 عضوا؛ منهم 66 عضوا منتخبا، و17 عضوا معينا، وقبل مرور عامها الأول كانت الحرب العالمية الأولى قد اندلعت وأعلنت الأحكام العرفية في البلاد.
أفسح الصمت الذي حل على جبهات القتال الطريق أمام أصوات الشعوب المستعمرة للتعبير عن أشواقها في الاستقلال، واندلعت في مصر ثورة 1919 والتي انتهت إلى إقرار دستور 1923، الذي أخد بنظام المجلسين، "مجلس الشيوخ" (خمسي أعضائه معينون) و"مجلس النواب" (منتخب).
وبدا طبيعيا أن تواجه البرلمانات التي تشكلت على أرضية دستور 1923 الحل في عشرة مناسبات، مع صراع حزب الوفد الذي حظي بدعم شعبي جارف مع القصر الذي اعتمد على أحزاب الأقلية.
لكن مع ثورة 23 يوليو 1952 كتب "الضباط الأحرار" نهاية القصر والأحزاب والبرلمان، واستغرق الأمر أربع سنوات لإقرار دستور جديد، تم بمقتضاه تشكيل مجلس الأمة في يوليو/ تموز 1957 من 350 عضوا منتخبا.
وفى فبراير 1958 مع قيام الوحدة بين مصر وسوريا وصدر دستور مؤقت لـ"الجمهورية العربية المتحدة" شُكل على أساسه مجلس أمة مشترك من المعينين (400 عضو من مصر و200 عضو من سوريا) وعقد أول اجتماع في 21 يوليو 1960، حتى وقع الانفصال في سبتمبر 1961.
وعاد مجلس الأمة مجددا وفق دستور مؤقت صدر في 1964 وقد اكتسى طابعا يناسب الحقبة الاشتراكية فكان لزاما أن يكون نصف أعضاء المجلس على الأقل من العمال والفلاحين.
وهبت رياح التغيير مع رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، وتولي الرئيس الراحل أنور السادات مقاليد السلطة، ليقر دستور 1971 وتعديلاته التي أسست للحياة الحزبية من جديد بعد تجارب الحقبة الناصرية مع الحزب الواحد.
وفى عام 1979 أجريت أول انتخابات تشريعية في مصر على أساس حزبي، شاركت فيها عدة أحزاب سياسية تكونت بعد صدور قانون الأحزاب السياسية في عام 1977.
وفى عام 1980 تم إنشاء مجلس الشورى، وباستثناء تعديلات أدخلت على طريقة الانتخاب اتسمت سنوات الثمانينات والتسعينات والعقد الأول من الألفية الجديدة باستقرار نسبي.
وفي عام 2008 كانت ألسنة اللهب التي أطلت من نوافذ مجلس الشورى بوسط القاهرة تشي أن شيئا ما على وشك أن يحدث، وخلال خمس سنوات تلت انتخب برلمان وأسقط، وصدر دستور وأسقط، وانتخب رئيس وأسقط.
وسيحظى نواب البرلمان الذي انتخب عام 2015 بفرصة للاحتفال بقرن ونصف القرن على ميلاد الحياة النيابية في البلاد.