صدامات البرلمان التونسي وصعوبات تشكيل الحكومة الجديدة
التجاذبات السياسية وما نتج عنها من صدام داخل البرلمان التونسي، تعود في واقع الأمر إلى التناقضات الكبيرة بين الكتل المُشَكِّلة للبرلمان.
يبدو أن الساحة السياسية التونسية تقترب من أزمة برلمانية وسياسية حادة بعد أجواء التوتر والفوضى والانفلات التي أصبحت تُخيم على البرلمان المنتخب حديثاً، على خلفية التجاذبات السياسية والمواجهات بين حركة النهضة "إخوان تونس"، وبين كتلة الحزب الدستوري الحر.
ففي أثناء جلسات البرلمان، المخصصة لمناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2020، حدث الخلاف والصدام بين رئيسة الحزب عبير موسى، ونائبة حركة النهضة جميلة الكسيكسي.
وفي خطوة تصعيدية، اعتلى نواب الحزب منصة الرئاسة، المخصصة لرئيس البرلمان راشد الغنوشي ونائبيه، لمنع انعقاد جلسة الأحد 8 ديسمبر/كانون الأول الجاري، مُشددين على استمرار اعتصام أعضاء الحزب داخل البرلمان، إلى حين تقديم حركة النهضة اعتذاراً رسمياً، وسحب الكلمات التي توجهت بها نائبة الحركة، لما فيها من إهانة لكتلة الحزب وأنصاره وناخبيه.
وإزاء الفوضى التي أحدثها اعتصام نواب الحزب الدستوري الحر، أعلن مكتب مجلس نواب الشعب "البرلمان"، عن قراره إدانة كل العبارات المسيئة الصادرة في حق الحزب، وسحب تلك العبارات من مداولات الجلسة العامة ليوم 3 ديسمبر/كانون الأول الجاري، داعياً الجميع إلى احترام سير العمل واحترام أخلاقيات العمل البرلماني.
- حركة النهضة وانتخابات تونس 2019.. نهاية من؟
- سياسي تونسي: حركة النهضة الإخوانية تخصصت في نهب المال العام
صدام داخل البرلمان
تلك التجاذبات السياسية، وما نتج عنها من صدام داخل البرلمان، تعود في واقع الأمر إلى التناقضات الكبيرة بين الكتل المُشَكِّلة للبرلمان، والتي تنتمي إلى تيارات سياسية وفكرية مختلفة، خاصة بين حركة النهضة الإخوانية وبين الحزب الدستوري الحر.
وبدأ الخلاف بين الحركة، وبين كتلة الحزب المناهضة لإخوان تونس، عقب اتهامات وجهتها النائبة عن الحركة إلى كتلة الحزب، في مداخلة هاجمت من خلالها رئيسة الحزب ونوابه، وهو ما أثار حفيظة كتلة الحزب الذين احتجوا على اتهامهم بـ"قطاع الطرق"، ودخلوا في اعتصام داخل البرلمان، بعدما رفضت الحركة تقديم اعتذار رسمي للحزب.
والملاحظ، هنا أن الاعتصام كشف عن حقيقة الصراعات الداخلية والانقسام السياسي داخل البرلمان، بين داعم لموقف نواب كتلة الحزب الدستوري الحر، ومتضامن مع الحق في الحصول على اعتذار بعد الإهانة التي تعرضوا لها من طرف حركة النهضة، وبين معارض لذلك، لما فيه من تعطيل لجلسات البرلمان وتأجيج الفوضى في المشهد السياسي للبلاد؛ خاصة أن الخلاف بين "إخوان تونس" المتمثل في حركة النهضة، وبين التيار الليبرالي المتمثل في الحزب الدستوري الحر، وآخرين من القوى السياسية ليس جديداً؛ بل هو امتداد للخلافات العميقة التي تعود إلى فترة نظام الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي.
ولعل ذلك ما تبدى بوضوح في الانقسام الحاصل على الساحة السياسية التونسية، بشأن المخاوف من أن تؤدي هذه التناقضات والصراعات الداخلية في البرلمان، إلى تعطيل عملية المُصادقة على قرارات الأخير؛ فضلاً عن إمكانية انعكاسها سلباً على عمل الحكومة المُقبلة، ما يمكن أن يؤدي إلى إنهاك الحياة السياسية بشكل عام، عبر الخلافات والتجاذبات، في ظرف دقيق تمر به البلاد.
اختلافات الكتل النيابية
مثل هذه التناقضات السياسية داخل البرلمان، تأتي بسبب الكتل النيابية المختلفة داخله، وهو ما توضحه خريطة هذه الكتل من حيث عدد المقاعد المُخصصة لها. فقد تصدرت "حركة النهضة" نتائج الانتخابات التشريعية بحصولها على 52 مقعداً من مجموع 217، وحل حزب "قلب تونس"، حزب المرشح السابق للانتخابات الرئاسية نبيل القروي، ثانياً بحصوله على 38 مقعداً.
ثم يأتي بعد ذلك، التيار الديمقراطي (22 مقعداً)، يليه ائتلاف الكرامة المحافظ (21 مقعداً)، ثم الحزب الدستوري الحر (17 مقعداً)، وتحيا تونس (14 مقعداً)، ومشروع تونس (4 مقاعد). ولم تتجاوز باقي الأحزاب والقوائم المستقلة 3 مقاعد. وبالتالي، فالنتيجة هي تشكل البرلمان التونسي من عدد من الكتل البرلمانية الصغيرة، التي تنتمي إلى تيارات سياسية وفكرية مختلفة.
يؤكد ذلك أنه منذ الجلسة الافتتاحية سيطرت أجواء التجاذب والخلاف على الخطاب السياسي لهذه الكتل داخل البرلمان، والتي وصلت ذروتها بالخلاف بين حركة النهضة والحزب الدستوري الحر، وهو ما يعني أن الخلافات المتصاعدة تحت قبة البرلمان سيكون لها تأثير كبير على مسار المفاوضات الجارية حالياً لتشكيل الحكومة الجديدة؛ خاصة إذا لاحظنا أن اثنين من الأحزاب، هما التيار الديمقراطي "الثالث في البرلمان" وحركة الشعب، قد أعلنا قبل أيام، الجمعة 6 ديسمبر/كانون الأول الجاري، أنهما لن يشاركا في حكومة رئيس الوزراء المكلف الحبيب الجملي، ما يُمثل خطوة قد تقود إلى ائتلاف حكومي "هش"، وقد تلقي بالبلاد في أتون أزمة سياسية حادة.
صعوبات تشكيل الحكومة
ليس التيار الديمقراطي وحركة الشعب فقط هما من يرفضان المشاركة في تشكيل الحكومة الجديدة؛ بل يُضاف إليهما حزبا تحيا تونس والدستوري الحر، ما يشير إلى أن أربعة من الكتل البرلمانية أصبحت خارج نطاق المفاوضات الجارية لتشكيل الحكومة، وهو ما سوف يدفع رئيس الحكومة المكلف إلى الخيار الوحيد أمامه، أي الذهاب إلى حزب قلب تونس الذي حل ثانياً بالبرلمان، لعله يجد سياجاً برلمانياً، ولو هشاً، قادراً على توفير 109 من الأصوات الضرورية لنيل ثقة البرلمان.
يعني ذلك أن ائتلاف تشكيل الحكومة سوف يقوم بشكل أساسي على حزبي النهضة، وقلب تونس. إلا أن مجموع أعضاء الحزبين داخل البرلمان لا يصل إلى النسبة المطلوبة، ما يؤشر إلى ضرورة دخول كليهما في مشاورات مع أحزاب أخرى داخل البرلمان، للحصول على المُصادقة على تشكيل الحكومة، بما يؤدي إلى ضرورة التنازل -ولو مؤقتاً- من جانب النهضة، عن بعض الوزارات "غير السيادية"، في تشكيلة الحكومة للأحزاب الأخرى.
رغم ذلك، أو بالرغم من طبيعة الائتلاف المنوط به تشكيل الحكومة، فإن الرؤية العامة لهذه الحكومة سوف تكون محكومة بالرؤية العامة لحركة النهضة، كحركة إخوانية؛ إذ على الرغم من محاولات النهضة النأي بنفسها عن كونها فرعاً للتنظيم الدولي للإخوان في تونس فإن تحركاتها وأدبياتها تشي بذلك.
هنا، يتبدَّى بوضوح أن النهضة التي ستشكل الحكومة الجديدة، بموجب نتائج الانتخابات التشريعية، سوف تسعى للالتفاف على مواقفها السابقة التي أكدت فيها أنها "لن تتشارك مع حزب قلب تونس في الحكومة"، وستحاول إقناع قلب تونس بالدفع بقياداته من الصف الثاني، أو أسماء قريبة منه، لتضمن تصويته في البرلمان.
وبالتالي، فإن الصدام الحاصل داخل البرلمان، ورفض حركة النهضة تقديم الاعتذار إلى الحزب الدستوري الحر، إنما يؤكدان أن الفوضى الحاصلة داخل البرلمان تخدم مصالحها، في إطار تعطل محاولات تشكيل الحكومة الجديدة. بل يبدو أن تواصل المشهد الفوضوي والانقسامات السياسية بين المؤيد والمعارض لموقف الحزب الدستوري الحر، هو أفضل ما يمكن لتحويل الانتباه عن صعوبات تشكيل الحكومة، التي تتزايد يوماً بعد يوم؛ حيث أعلن الحبيب الجملي عن تأجيل الإعلان عن تشكيل فريقه الحكومي أسبوعاً إضافياً، بعد الموعد المُحدد له في 13 ديسمبر/كانون الأول الجاري.
ولعل هذا ما يؤكد من جديد ملامح المشهد السياسي الذي بدأت ملامحه في التشكل على الساحة التونسية. هذه هي الملامح التي تؤشر إلى الاختلافات المتوقعة، أو التي يمكن توقعها، بخصوص الائتلاف الذي سيقوم بتشكيل الحكومة، وفيما بين أعضاء هذا الائتلاف، وما يمكن أن تُثيره تلك الاختلافات من إشكاليات، ليس فقط في الداخل التونسي، بل في خارجه أيضاً.
aXA6IDE4LjExOS4xMjQuNTIg جزيرة ام اند امز