الإنجاز الدبلوماسي الإماراتي التاريخي والجريء والشجاع يأتي تأكيداً على الدور الإماراتي الرائد في توثيق الأخوة الإنسانية بين الجميع.
لماذا تعقد معاهدات السلام بين الدول؟ إجابة هذا التساؤل تظهر بوضوح عند العودة إلى الماضي البعيد قبل القريب، لنستحضر منه نماذجَ بنيت عليها حضارات وتأسست على ثمارها دول ووضعت على أثرها الحروب أوزارها، فمن عهد المصريين القدماء وتحديدا رمسيس الثاني ظهرت فكرة اتفاقيات السلام، عندما أبرم عام 1258 ق.م اتفاقا مع "حاتوسيليس الثالث" سميت بمعاهدة "قادش" لتصبح أقدم معاهدة سلام في التاريخ، أسفرت عن إيقاف معارك امتدت لقرابة 15 عاما، عقبها ساد السلام وواصل رمسيس الثاني بناءَ جزء من حضارةٍ تاريخية.
ومن معاهدة "قادش" للسلام في العهد القديم، مرورا بمعاهدة باريس عام 1783 التي كانت السبب في تأسيس أكبر دولة في العالم حاليا وهي الولايات المتحدة، وفي التاريخ الحديث حيث معاهدة فرساي عام 1920، وغيرها الكثير من الاتفاقيات التي أنهت نزاعات وحروبا امتدت لسنوات وراح ضحيتها الملايين، وبعدها تبدلت العلاقات من عدائية إلى أخرى حليفة وصديقة.
من هذا الرحم ولدت معاهدات السلام وأقامت معها أسس التعايش والمصالحة والمصارحة والمصلحة أيضا، فهنا نتخطى مبدأ "لا ضرر ولا ضرار"، إلى تبادل المصالح وتحقيق النتائج الملموسة على الأرض، التي تؤتي ثمارها إذا لم تكن اليوم ففي الغد، وإذا لم تكن للجيل الحالي فهي لأجيال قادمة.
هنا أمسكنا طرف الخيط الذي لا نهاية له، ومن هنا أيضا نتطرق للحديث عن حدث تاريخي يشهده العالم وتعيشه المنطقة منذ شهر، حينما اتخذت الإمارات قرارها التاريخي والسيادي بإبرام معاهدة سلام مع إسرائيل، لتلحقها البحرين أيضا، في مشهد يبرز مدى تبدل الأدوار وتغير قواعد اللعبة في المنطقة.
فقرارات الإمارات والبحرين هي خيارات ليست جديدة، بل قديمة منذ بدء الصراع العربي الإسرائيلي، وسبقهما إليه الطرف الأساسي في القضية - القيادة الفلسطينية - التي اختارت نفس الطريق، فكل طرف له الحق السيادي في تقرير المصير، وما يحقق لشعبه وشعوب المنطقة الاستقرار والأمن، وتعزيز الجهود لإعادة الحقوق المسلوبة التي ضاعت أو ضُيعت بأفعال غير محسوبة من قبل سياسيين أخذتهم العزة بأنفسهم، فامتنعوا عن الاعتراف بأن السلام دون غيره هو طريق استرداد الحقوق ونيل جزاء العقوق.
هذا الموقف العربي الخليجي الجديد يأتي ضمن المواقف العربية السابقة التي رسخت نفس الفكرة، ولنستذكر معا معاهدات واتفاقيات السلام مع إسرائيل، حيث كانت بدايتها معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي وقعت في واشنطن في 26 مارس 1979 في أعقاب اتفاقية كامب ديفيد لعام 1978، ووقع عليها الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، وشهدها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك جيمي كارتر.
جاءت نتائج الموقف المصري لتسد بابا للصراع وتفتح آخر للسلام وللتعايش، فهذه المعاهدة أوقفت حربا أنهكت مصر عسكريا واقتصاديا، ثم أجبرت المعاهدة إسرائيل على الانسحاب الكامل من شبه جزيرة سيناء التي احتلتها عام 1967 مع السماح بحرية مرور السفن الإسرائيلية عبر قناة السويس، ومنذ ذلك الحين شهدت مصر استقرارا عسكريا، ولم تخض إلى الآن أي مواجهات عسكرية مع إسرائيل، بل شهدت علاقات دبلوماسية طبيعية واستقرارا طيلة الفترة الماضية.
ولن ينسى العالم ذلك الموقف التاريخي لأنور السادات، حين وقف على منصة الكنيست يلقي خطاباً في عقر دار الاحتلال حينها، وأثبت به قدرته الفذة على إزالة الامتناع الإسرائيلي عن السلام وما يتطلبه من إعادة الأرض العربية التي احتلتها إسرائيل في حرب 1973، لتصبح مصر أول دولة عربية تعترف رسميا بإسرائيل، وتنهي ثلاثة عقود من الحرب والنزاع بين الدولتين.
بعدها فكر الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات جليا بفلسطين، وما الذي سيجنيه منها الفلسطينيون في حال توقيع أي اتفاقية مع إسرائيل، لتتمخض أفكاره أخيرا عن توقيع فلسطين لـ6 اتفاقيات مهمة مع إسرائيل، في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية وأهمها "اتفاقية أوسلو الأولى 1993" وهي أول اتفاقية وقعها الفلسطينيون والإسرائيليون عام 1993 بواشنطن.
هل كانت ثمار هذا الاتفاق إيجابية للقضية الفلسطينية؟ الإجابة هي نعم بلا شك، حيث أعطى الاتفاق الفلسطينيين حكما ذاتيا على أرضهم للمرة الأولى منذ حرب 48، وكذلك انسحبت إسرائيل من غزة وأريحا وعدة مدن رئيسية، وتم تشكيل السلطة الفلسطينية وأجهزتها، وانتخاب أعضاء للمجلس التشريعي، والإفراج عن معتقلين في السجون الإسرائيلية، وتوقيع اتفاقية تتعلق بالحركة والعبور للفلسطينيين وتحديدا في قطاع غزة، بهدف تحسين الوضع الاقتصادي، للربط بين الضفة الغربية وقطاع غزة عبر تسهيل مرور البضائع.
وتأتي اتفاقية "وادي عربة" بين الأردن وإسرائيل، التي وقعها الملك حسين ورابين في البيتِ الأبيض، والتي أنهت أيضا حالة العداء في البلدين ورسمت الحدود بينهما، حيث استعادت عمان بموجبها أراضي الباقورة والغمر التي سيطرت عليها إسرائيل لسنوات، وتضمنت الاتفاقية بنودا أخرى، تتعلق بالأمن والدفاع واحترام حدود الآخر، والمعاونة ضد الإرهاب وضد أي عمليات مسلحة على حدود البلدين.
وبقراءة واقعية للمشهدين العالمي والعربي، فقد ثبت أن كل معاهدات واتفاقيات السلام، مكنت أطرافها من استعادة أراضيهم المحتلة بالسلام وليس بالحرب، فأينما حلت الحروب لن تجلب سوى الدمار والخراب، ولنا في التاريخ دروس وعبر كثيرة. لذلك جاء القرار الإماراتي الشجاع ليوقف الضمَّ الإسرائيلي لأراضٍ بالضفة الغربية لأكثر من 1.8 مليون دونم، أو ما يعادل 30% من المساحة الإجمالية لها، وإنقاذ أكثر من 112 ألف فلسطيني يعيشون في 43 بلدة بالضفة الغربية كانوا عرضة للطرد، وبالتالي سينتهي الأمل في حلم إقامة الدولة الفلسطينية.
الإنجاز الدبلوماسي الإماراتي التاريخي والجريء والشجاع، يأتي تأكيداً على الدور الإماراتي الرائد في توثيق الأخوة الإنسانية بين الجميع ودعماً للقضية الفلسطينية ومناصرة للشعب الفلسطيني، بإيقاف خطط الضم الإسرائيلية للأراضي الفلسطينية مقابل السلام، الذي من شأنه أن يحافظ على حل الدولتين ويعمل على تحقيق سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط.
البحرين يداً بيد الإمارات على موعد مع التاريخ اليوم، حيث يخلد "الشجعان" في ذاكرة الأجيال الجديدة، ليحولوا المستحيل إلى الممكن، والمحن إلى فرص ونصر وواقع ومستقبل من أجل بسط ذراع السلام في منطقة الشرق الأوسط، ويصبح 15 سبتمبر 2020 منعطفا جديدا في تاريخ البشرية وبوصلة باتجاه السلام لكل من يريد فتح صفحة جديدة، ونقول للجميع: "بيس".."شالوم".."سلام".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة