قد لا يكون من المبالغة القول إن "الصورة" بدلالاتها المتعددة هي القيمة المركزية في الثقافة العربية الفردية والجماعية، منذ ما قبل الإسلام وحتى اليوم.
والصورة هنا هي انعكاس الذات في مرآة وعي وإدراك الآخرين؛ سواء أكان هذا الانعكاس معبراً عن الشكل الخارجي، الذي يطلق عليه الوجاهة أو "البرستيج" في الاستخدام المعاصر، والذي يمكن تعريفة بـ"النفخة الكذابة" أو اصطناع العظمة على غير الحقيقة، أو على عكسها في غالب الأحيان.
والصورة تعني أيضا التصور العام عن الشخص، أو المجتمع أو الثقافة عند الآخرين كما هو متعارف عليه في الدراسات الاجتماعية المعاصرة؛ مثل صورة العرب في السينما الأمريكية مثلاً.
والصورة كانت تعني في تاريخ العرب النحت وصناعة التماثيل، ولذلك وردت الأحاديث النبوية في كراهية التصوير في ذلك الزمان، وفهمها السطحيون في زماننا أن تلك الأحاديث تتكلم عن التصوير الفوتوغرافي، فحرموا التصوير نتيجة لقصور فهمهم.
الصورة التي هي انعكاس الذات في مرآة وعي وإدراك الآخرين، كانت وما زالت هي المحرك الأكبر للفعل والتفاعل والفعالية في الثقافة العربية؛ وهي التي حافظت على القيم الجماعية العظيمة التي ميزت العرب، وخلقت لهم تقاليد راسخة، وحافظت على استمرارها.
فالصورة وصناعتها والمحافظة عليها عملية محايدة؛ تكون إيجابية عندما تنصرف الأنا والذات إلى العطاء وتحقيق الخير العام لبني البشر، والتضحية والبذل من أجلهم، والإسهام في تعميق القيم والمثل الإنسانية العليا، فالنفس الإنسانية مفطورة على الاعتزاز بالذات ورؤية صورتها جميلة عظيمة في مرآة وعي وإدراك الآخرين.
وتكون صناعة الصورة سلبية حين تتضخم الذات وتتعالى، وتعتقد في تميزها عن الآخرين، بل تنطلق من نظرة استعلاء على الآخرين، واحتقار لهم، وهذه الحالة السلبية لصناعة الصورة هي السبب الأصيل في الحروب بين العرب منذ حرب داحس والغبراء، وحرب البسوس، وحرب الفجار، وحرب بعاث قبل الإسلام، وكل الصراعات التي حدثت بين قبائل وفرق وجماعات المسلمين، هي حروب حول الصورة الجماعية، حروب لصناعة الصورة، أو استرداد الصورة التي أصابتها الخدوش، ونالت منها الوقائع، وذلك على العكس من الحروب التي حدثت في أوروبا مثلاً؛ حيث كانت في معظمها حروباً من أجل الصراع على الموارد الطبيعية، أو التنافس على الأراضي والأقاليم، أو الانتقام، أو لأسباب دينية.
كذلك سجل الشعر العربي خفايا وخلفيات الأفعال العظيمة التي قام بها العرب، ومن يتعمق في خلفياتها الفلسفية يجد أن صناعة الصورة هي كلمة السر، وهي المحرك الأكبر للالتزام بالقيم العليا مثل الكرم والسخاء والعفة والنجدة والشهامة، والشجاعة، والمروءة، والفروسية.
ولأن العربي يحب دائماً أن يصنع صورة يفتخر بها هو؛ ومن يأتي بعده من ذريته، أو من بني جلدته، فهو يعطي بسخاء لصناعة صورة تستمر عبر الأجيال، وقد استمرت، ووصلت إلينا بعد مئات السنين، وهو يقاتل بشجاعة لنصرة المظلوم لصناعة صورة، وهو يتعفف عن الدنيا لصناعة صورة.
كل تلك الصور حفظها الشعر العربي لقرون طويلة كانت معيناً لا ينضب، ومصدراً لا ينفد للقيم النبيلة والمثل العليا، والمعايير السامية التي ترتقي بالإنسان إلى مستوى الفضيلة والمكانة العليا.
ونفس هذا الشعر العربي سجل أيضاً حالات كثيرة لصناعة صورة على حساب الضعفاء والبسطاء والأقل حظاً، في حالات متعددة من الاستعلاء كان أكثرها قسوة ما ورد في معلقة "عمرو بن كلثوم" قوله: "ونشرب إن وردنا الماء صفواً... ويشرب غيرنا كدرنا وطينا". صورة فيها من التأله والتكبر والتجبر صنعتها القوة على حساب الأقل مكانة والأضعف قوة.
في كلتا الحالتين كانت صناعة الصورة قيمة مركزية في الفعل والتفاعل، وفي كلتيهما نجح في صنع الصورة وفي ترسيخها لتستمر حية على مر مئات السنين.
وهذا الحال لم يتغير كثيرا في عصرنا الحاضر، فصناعة الصورة صارت هي الهدف والقيمة الأعظم عند المعاصرين سواء عن جدارة واقتدار، أو من خلال الشطارة و"الفهلوة" والحيلة. وقد ساهمت التكنولوجيا الحديثة، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي في تضخيم الصورة في الأذهان، فسعى من يستحق، ومن لا يستحق إلى صناعة صورة تتجاوز كثيراً حقيقة واقعه وإمكاناته.
وكان أهل التدين والمتخصصين في الدعوات الدينية هم أول ضحايا هذه الحالة من صناعة الصورة، فسقط الكثير منهم في أخطاء وخطايا، وهو يسعى جاهدا لصناعة صورة تضعه في مصاف العلماء العظام، وتخلى الكثير منهم عن قول الحق والانتصار للفضيلة مجاملة للعوام، ونزولا عند توقعاتهم، وخوفا من اهتزاز الصورة عندهم، وركب بعضهم فوق ظواهر الشعبوية وانجرف في تبرير العنف والإرهاب والتطرف والكراهية والتخلف والرجعية من أجل الصورة التي يتمنى أن يراها في مرآة العوام والجهلاء من المتابعين والمصفقين.
كذلك وقع الكثير من المثقفين والكتاب في شراك صناعة الصورة، فأكثروا من الإنتاج الأدبي أو الفكري أو البحثي الهزيل من أجل صناعة الصورة، وصار الواحد منهم يتسرع في الأحكام والمواقف والآراء غير الناضجة لصناعة الصورة، بل إن بعضهم صار يسوق صورة نفسه، ويكتب عن نفسه، ويمدح إنتاج نفسه من أجل الصورة.
الصورة مصلحة استراتيجية عند الجميع سواء أكانوا أفرادا، أم مجتمعات، أم دولا، ولكن الفارق الكبير أن تكون صورة تنفع الناس وتحقق الخير العام وتلتزم بالفضائل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة