دعوات بالجزائر لعدم الاكتفاء بالحلول الدستورية والمرور عبر حلول سياسية، وتباين حول مدة الفترة الانتقالية بين ضرورة التقيد بها وتجاوزها.
تصاعد مؤخراً في الجزائر النقاش حول طبيعة المرحلة الانتقالية التي دخلت فيها البلاد بعد استقالة الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة الثلاثاء الماضي، على خلفية المظاهرات الشعبية الضخمة المطالبة برحيل نظامه.
- أسبوع الجزائر.. نهاية حكم بوتفليقة بتغيير سلمي يدحر أطماع الإخوان
- الجزائريون واستقالة بوتفليقة.. فرحة يشوبها غموض المرحلة المقبلة
ولم يختلف الجزائريون كثيراً ومعهم المراقبون حول أسس تلك المرحلة بين البحث عن مخارج دستورية للأزمة الحالية، والاعتماد على حلول سياسية تتماشى وحساسية الظرف والنقائص المسجلة في نصوص الدستور، وبين الداعين للخروج بحل يراعي أحكام دستور البلاد مع عدم التقيد بكل نصوصه والاعتماد في الوقت ذاته على خيار الحل السياسي المرافق للمادة 102 بشكل يضمن استقرار مؤسسات الدولة ويلبي مطالب الحراك الشعبي.
ورغم أن الكفة تميل لصالح "ضرورة الاعتماد على حل سياسي" سواء بتوافقه مع النصوص الدستورية أو "وضع الدستور جانباً"، إلا أن هناك إجماعاً على أن الجزائر بحاجة إلى استثمار فرصة المطالب الشعبية الداعية إلى ضرورة التغيير، بإعادة نظر شاملة في ترسانة القوانين التي يُفترض أنها تنظم العملية السياسية، من خلال وضع أسس جديدة للديمقراطية وسد الثغرات في كثير منها، خاصة ما تعلق بالدستور وقانون الانتخابات والقضاء، واللجنة العليا للانتخابات التي يقولون إن دورها يجب أن يكون "منظماً ومراقباً"، وكل ذلك قبيل انتخاب رئيس جديد للبلاد.
قاعدة حل اتفق عليها الجزائريون والطبقة السياسية حتى قبل استقالة بوتفليقة، لكنهم اختلفوا حول مدة الفترة الانتقالية، وكان علي بن فليس رئيس حزب طلائع الحريات المعارض من بين الداعين إلى ضرورة تمديدها إلى ستة أشهر على الأقل لإحداث التغيير الذي يطالب به الحراك الشعبي.
فيما اعتبر مراقبون أن "التسريع في إنهاء المرحلة الانتقالية التي يحددها الدستور الجزائري في 90 يوماً هو الأضمن لأية تعقيدات قد تطرأ في حال تمديد الفترة الانتقالية" والتي تعني بحسبهم "تمديد الأزمة"، وبأن "الأولوية الحالية هي انتخاب رئيس جديد والذي يكفل بعد انتخابه إحداث التغييرات المطلوبة".
ويرى آخرون في تصريحات لـ"العين الإخبارية" أن "الفترة المحددة دستورياً غير كافية للخروج من الأزمة السياسية التي تعيشها الجزائر"، مرجعين ذلك إلى "الأخطاء المتراكمة التي تركها نظام بوتفليقة"، والتي تحتاج حسبهم إلى "توافق سياسي وشعبي على شكل خارطة طريق تُحدث القطيعة مع كل الأخطاء التي حدثت منذ استقلال البلاد، وترسم مشهداً جديداً مؤسساً على مطالب الحراك الشعبي".
هذا الحراك الشعبي واصل ضغطه للجمعة السابعة على التوالي والأولى بعد استقالة بوتفليقة، وطالب مئات آلاف الجزائريين الذين خرجوا في جميع المحافظات الجزائرية في جمعة "ضد الباءات الثلاث" باستقالة رئيسي مجلس الأمة والمجلس الدستوري ورئيس الوزراء، معتبرين أن رحيل بقية رموز نظام الرئيس المستقيل "شرط أساسي قبل الدخول في تطبيق التغيير على أرض الواقع".
ما المقصود بالحل الدستوري والحل السياسي؟
دخل مصطلح "الحل السياسي" في الجزائر منذ تسعينيات القرن الماضي عقب إلغاء المسار الانتخابي ودخول الجزائر في فراغ دستوري بعد استقالة الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد وما تبعها من حل البرلمان، ليلجأ الجيش الجزائري حينها إلى "تأسيس المجلس الأعلى للدولة" الذي يعتبر هيئة "غير دستورية"، وأرجعت الأحزاب السياسية آنذاك أسباب تشكيل المجلس إلى "عدم وجود مخارج في الدستور الجزائري لسد ثغرة الفراغ في مؤسسات الجزائر".
وعن المقصود بـ "الحل الدستوري" ذكر الخبيران القانونيان الجزائريان الدكتور عامر رخيلة والدكتورة فتيحة بن عبو في وقت سابق لـ"العين الإخبارية" أن ذلك يعني "اللجوء إلى مواد الدستور الجزائري في حل أي أزمة سياسية، ويكون الدستور هو الغطاء الوحيد لحل أية أزمة سياسية".
وعن الأزمة الحالية في الجزائر، ذكر الخبيران أن "مخرج الأزمة تتضمنه المادة 102 من الدستور الجزائري التي تنص على تولي رئيس مجلس الأمة رئاسة الدولة لفترة انتقالية مدتها 90 يوماً بعد شغور منصب رئيس الجمهورية لأسباب الوفاة أو الاستقالة أو العجز نتيجة المرض المزمن"، ويعني ذلك بحسبهم "التطبيق الحرفي لنصوص مواد الدستور الجزائري دون الخروج عنها، وما خرج عنها تعتبر حلولاً غير دستورية".
أما فيما يتعلق بفكرة "الحل السياسي"، فقد سبق للمحلل السياسي الجزائري الدكتور حسين قادري أن أشار في وقت سابق لـ"العين الإخبارية" بأن "الحل السياسي هو المستند على حلول خارجة عن إطار الدستور ويتم اللجوء لها عندما لا يجد أصحاب القرار في الجزائر مخرجاً لحل الأزمة ضمن مواد الدستور الجزائري".
فيما ذكر المحلل السياسي عبدالعالي رزاقي أن "الحل السياسي قد يكون مستنداً على بعض مواد الدستور، من خلال اللجوء إلى نصوص دستورية تؤطر المرحلة الانتقالية على شكل إعلان دستوري مع تجميد العمل بالدستور مثلما حدث في دول أخرى"، كما أشار إلى أن "حقيقة الأزمة الحالية سياسية وليست دستورية وهو ما يتطلب حلولاً سياسية محضة".
وأكد على ذلك المحلل السياسي لزهر ماروك الذي أشار إلى "أن الدستور الجزائري لم يتوقع حلولاً لمختلف أنواع الأزمات أو الفراغ الذي يحدث في البلاد، وبأنه يحتوي على كثير من الثغرات، إلى جانب أنه دستور يضع صلاحيات كبرى لرئيس الجمهورية، وبعد استقالة بوتفليقة وجدت الجزائر نفسها أمام فراغ، ليس في منصب الرئاسة فقط بل في الصلاحيات التي يمكنها أن تسهم في حل الأزمة".
وتوقع ماروك اللجوء إلى "تشكيل هيئة انتقالية تمنح لها صلاحيات رئيس الجمهورية لوضع خارطة طريق تمكن من الخروج من المأزق السياسي، في وقت تحصر المادة 102 من الدستور صلاحيات رئيس الدولة المؤقت".
الحل الدستوري
في تصريح لـ"العين الإخبارية"، يرى المحلل السياسي الدكتور لزهر ماروك أنه "بعد استقالة بوتفليقة التي تعتبر أحد المطالب الأساسية للحراك الشعبي إلا أنه ترك عديد المطبات والعراقيل في الحياة السياسية للبلاد، خاصة بعد حل اللجنة العليا للانتخابات وترك البلد في أزمة وفراغ خطر جداً، وانحياز المؤسسة العسكرية للمطالب الشعبية عجّل ببداية تحقيقها، والجدل اليوم بين الفواعل السياسية بين الحل الدستوري والحل السياسي من خلال التوافق على خارطة طريق تتماشى مع مطالب الحراك" .
- استقالة بوتفليقة توحد أحزاب الجزائر.. ودعوات للالتفاف مع الجيش
- بالصور.. آلاف المتظاهرين الجزائريين في جمعة "ضد الباءات الثلاث"
واعتبر أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر أنه "قبل الحديث عن مدة الفترة الانتقالية المطلوبة يجب ضمان التوافق بين مختلف مكونات الطبقة السياسية حول ورقة الطريق التي تُخرج الجزائر من هذا المأزق السياسي.
وتوقع أن الأمور تتجه نحو التوافق حتى وإن تم تجاوز المدة المحددة في الدستور، و90 يوماً ليست مدة مقدسة يجب التقيد بها، خاصة وأن الجزائر مقبلة على ورشات إصلاح كبيرة في قوانينها وهذا ما يأخذ وقتاً أطول، وقد تكفي الـ 90 يوماً من خلال تسريع خطوات وضع الآليات للذهاب إلى انتخابات رئاسية، وإذا لم تكف نذهب إلى ثلاثة أشهر أخرى.
وأضاف: "مختلف مؤسسات الدولة وخاصة غرفتا البرلمان فقدت شرعيتها بخروج الحراك الشعبي، والضربة الثانية صمتها حول ما يحدث ولم تقم بدورها الدستوري، ثم جاءت استقالة بوتفليقة لتسقط ورقة التوت على هذه المؤسسات، وتبقى الآن مجرد مؤسسات شكلية انتقالية، وبمجرد انتخاب رئيس جديد سيتم حل البرلمان".
ومع ذلك، يرى ماروك أنه "يجب التقيد بالأولويات التي يأتي على رأسها كيفية تسيير هذه المرحلة في أسرع وقت ممكن وانتخاب رئيس جديد، ولا يجب أن تقع البلاد في فراغ بالمؤسسات حتى وإن كان مطعوناً في شرعيتها، والرئيس الجديد ستكون له ورقة طريق من خلال انتخابات تشريعية ومحلية مسبقة وإرساء دستور جديد يواكب مطالب الحراك، واتضح أن الدستور الحالي ملغم ولا يقدم حلولا للأزمات، بدليل أننا نفكر في حلول سياسية خارج إطار الدستور، والتمسك به اليوم لتفادي حالة الفراغ فقط".
الحل السياسي بفترة أطول
ذكر المحلل السياسي الدكتور حسين قادري في وقت سابق لـ"العين الإخبارية" أن "حل كل الأزمات السياسية التي مرت بها الجزائر منذ استقلالها مرّ عبر حلول سياسية محضة"، وهو ما يراه كثير من المحللين السياسيين وفق تصريحاتهم لـ"العين الإخبارية".
- مصادر لـ"العين الإخبارية": رئيس مجلس الأمة الجزائري في حكم المستقيل
- صحف فرنسية: الجزائريون انتصروا في معركة لكن الحرب مستمرة
ويرى العرْبي زواق المحلل السياسي أن "الفترة الانتقالية المحددة دستورياً بـ 90 يوماً لا تكفي على الإطلاق لتنظيم انتخابات رئاسية، ومنطلقي هو انعدام وجود طبقة سياسية في الجزائر، لقد صحّر بوتفليقة الساحة السياسية، أحزاب الموالاة غير قادة حتى على الظهور أو النزول إلى الشارع، والمعارضة شبه معدومة ولا وجود لها، بأي منطق ننظم انتخابات رئاسية بهذه المعطيات؟"
وأوضح "أن إجراء الجزائر انتخابات رئاسية في هذه الفترة يعني أننا سنجد أنفسنا أمام نفس الوجوه السابقة التي ترشحت في الانتخابات الرئاسية الملغاة".
وعن طبيعة حل الأزمة السياسية في الجزائر، يرى المحلل السياسي أن "الحل الدستوري شبه مستحيل، لا بد من حل سياسي، وتطبيق الحل الدستوري يعني تولي رئيس مجلس الأمة رئاسة الدولة مؤقتاً وهذا ما يرفضه الحراك الشعبي رفضاً مطلقاً، وهذا الحل عملياً غير ممكن، وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى سياسة الإقصاء التي اتبعها الرئيس المستقيل والدليل أنه بعد انسحابه لم يبق أي شيء".
وأضاف أن "تجاوز الأزمة الحالية يكون بحل سياسي متوافق عليه، والمؤسسة الوحيدة التي بقيت في الساحة هي المؤسسة العسكرية، وقد أثبت قائد الأركان إلى حد الآن أنه حكيم بأن وجد توافقاً بين كل تناقضات المجتمع، ومنه يمكن الخروج بقيادة مؤقتة تُشرف على تحضير وتسيير المرحلة الانتقالية التي تفضي إلى رئيس شرعي عبر انتخابات رئاسية شفافة، وبحسب توقعاتي فإن المنطق يقول إننا متجهون نحو حلول سياسية وليست دستورية، وقائد الأركان دعا في أكثر من مناسبة إلى احترام الدستور مع مرافقة مطالب الشعب إلى غاية تحقيقها كاملة غير منقوضة، وأعتقد أن قايد صالح سينحاز إلى الشعب لاستحالة تطبيق النصوص الدستورية".
المحلل السياسي الدكتور عبدالعالي رزاقي يرى أن مشكل الأزمة الحالية في الجزائر "سياسي وليس دستوري، وهو ما يفرض حلولاً سياسية فقط ولا يهم فترتها الزمنية".
وقال رزاقي في حديث مع "العين الإخبارية" إن "الحراك الشعبي يرفض تطبيق المادة 102 من الدستور بحذافيرها، خاصة فيما يتعلق بتولي عبدالقادر بن صالح رئاسة الدولة، والجزائر اليوم في ورطة، فالشعب ضد البرلمان بغرفتيه لأن غالبية أعضائه من أحزاب التحالف الرئاسي، والأزمة في الجزائر هي أزمة سياسية وليست دستورية، كما أن بوتفليقة لم يعلن عن استقالته في رسالته الأخيرة، بل أعلن نهاية عهدته الرابعة، وهو ما وضع المؤسسة العسكرية في ورطة لأن نهاية العهدة تعني التطبيق الحرفي للمادة 102".
ويرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر، أن "الحل في إعلان دستوري في مجموعة من المواد الدستورية صادر عن المؤسسة العسكرية ويجمد العمل بالدستور مؤقتاً، وأن يتضمن الاعلان الدستوري تشكيل قيادة انتقالية من شخصيات مهمتها تعيين حكومة مؤقتة مدتها 90 يوماً أو أكثر، وهيئة للإشراف على تنظيم ومراقبة الانتخابات وتعيد النظر في قانون الانتخابات، وتدعو إلى انتخابات رئاسية برزنامة واضحة بناءً على مواد الإعلان الدستوري".
مزج بين الحلّين
بدوره قال الحقوقي الجزائري مصطفى بوشاشي في تصريح لـ"العين الإخبارية": " في اعتقادي يجب أن يكون الحل سياسياً طالما أن النظام هو الذي خرق الدستور وخرج عن بنوده، ومن ناحية أخرى الدستور الجزائري ينص على أن السيادة تعود للشعب، والعشرون مليونا الذين خرجوا في الأسابيع الأخيرة خطابهم كان واضحاً، الشعب يريد مرحلة انتقالية بمؤسسات وشخصيات يثقون في نزاهتهم وغير متورطين في تزوير إرادة الشعب في العشرين سنة الأخيرة على الأقل، وبالتالي يمكن المزاوجة بين الحل الدستوري والحل الدستوري".
- اجتماع للبرلمان الجزائري الثلاثاء للتصويت على شغور منصب الرئيس
- المجلس الدستوري الجزائري يثبت شغور منصب الرئيس ويلزم البرلمان بالانعقاد
وعن فترة المدة الانتقالية التي تحددها المادة 102 من الدستور الجزائري، يرى بوشاشي أنها "غير كافية، ولسنا ملزمين باحترام هذه الآجال، طالما أن السيادة للشعب، والسبب في ذلك أن الحراك الشعبي بات مطالباً بتنظيم نفسه من خلال أحزاب أو جمعيات جديدة، مع فتح الفضاءين الإعلامي والجامعي للنقاش الحر، وإعطاء فرصة للحراك للمشاركة إيجابياً في اختيار المؤسسات المستقبلية، وبالتالي أعتقد أن 3 أشهر غير كافية، لأن القوى التقليدية فقط هي المهيكلة والمنظمة ومستعدة للدخول في انتخابات في القريب العاجل، وأرى أن أدنى مدة للفترة الانتقالية هي 6 أشهر، المعقول والمنطقي هو عام كامل".
ويرجع ذلك إلى أن "تحضير الانتخابات ليس بالأمر الهين، وذلك يحتاج إلى آليات ومجموعة من المراسيم التشريعية لتعديل قانون الانتخابات، ولا يمكن الحديث عن احتمال تمييع أو اختراق الحراك، لأن الأخير سينتظم في أحزاب ويشرع في النشاط للمشاركة بطريقة فعالة في المستقبل، بعد تشكيل حكومة وحدة وطنية ورئاسة مقبولة، ويجب أن نعطي لحكومة الوحدة الوطنية الوقت الكافي لتنظيم هذه الانتخابات، وكل التجارب التي مرت بها الدول فإن الفترة الانتقالية التي تحدثنا عنها كانت معقولة لتنظيم الانتخابات الرئاسية".