البابا فرنسيس من أكثر باباوات روما قربا من العالمين العربي والإسلامي، فقد أقام الرجل جذورا من المودات مع الشرق.
وقد جاءت زيارة "فرنسيس" إلى الإمارات للتوقيع على وثيقة الأخوة الإنسانية مع شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، لتزيد اهتمام الرأي العام العربي به وبأخباره.
في الشهرين الماضيين، دخل فرنسيس إلى مستشفى "جيميلي" الشهيرة في العاصمة الإيطالية لتجرى له جراحة دقيقة في القولون، وقد تجاوزها بسلام، وعاد إلى مباشرة عمله، غير أن بعض الشائعات ملأت الأجواء، في مقدمها حديث عن استقالة البابا، وزادت التساؤلات عن حقيقة الأمر.
قبل الجواب بشكل مباشر عن ذلك، ينبغي الإشارة إلى بعض الحقائق الثابتة في دوائر الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، ففي سلمها أن البابا يبقى في كرسيه مدى حياته، ومع ذلك ففي مرات نادرة كانت المصلحة العامة لشؤون الكنيسة تقتضي استقالة البابا، وهو أمر لم يحدث إلا مرات قليلة، أقل من أصابع اليد الواحدة، كان آخرها استقالة البابا بندكتوس السادس عشر عام 2013.
جاء فرنسيس إلى المقعد البابوي في سن متقدمة، وها هو يقترب من عامه الخامس والثمانين، ومع التهاب في أعصاب إحدى رجليه، عطفا على أنه يعيش برئة واحدة، والآن مشكلات في القولون، خرج إعلاميون يتساءلون: هل يفكر فرنسيس في الاستقالة؟ لو حدث ذلك لصارت سابقة في تاريخ الفاتيكان، أي وجود بابوين شرفيين مستقيلين وبابا منتخب جديد.
لم تكن هذه الأخبار لتغيب عن أعين فرنسيس، وهو القارئ والمثقف الكبير، لهذا توقف في حديثه مع "كارلوس هيريرا"، من راديو COPE، عند هذه الإشكالية.. ما الذي قاله الرجل ذو الثوب الأبيض؟
بمباشرة وصراحة متناهيتين، قال فرنسيس: "لم يخطر هذا الأمر -أي الاستقالة- ببالي أبدا.. لا أعرف من أين جاؤوا بفكرة أنني أستقيل".
وبنوع من السخرية، أوضح البابا أيضا أنه تم إعلامه بهذه الأخبار في وقت لاحق: "لقد أخبروني أن هذا الموضوع كان رائجا إعلاميا".
ولعله من الطبيعي عندما يمرض بابا روما أن يثور إعصار "كونكلاف"، أو نسيمُه، والكونكلاف هو مجمع الكرادلة الذي يجتمع في كنيسة السيستين الشهيرة عند وفاة البابا لاختيار خلفه.
ما الذي يشغل عقل ووقت فرنسيس إن كان لا يفكر في الاستقالة إذا؟
من الواضح أن الرجل مهموم بقضايا جذرية عالمية مثيرة للخوف والقلق، وفي المقدمة منها ما يجري في أفغانستان والارتدادات المتوقعة للانسحاب الأمريكي من هناك هذه الأيام.
منذ نحو أسبوعين وأكثر، طلب فرنسيس من الكاثوليك حول العالم الصوم والصلاة على نية إحلال السلام في أفغانستان.
وفي حواره المشار إليه، بدا واضحا أنه منشغل بالوضع الأمني هناك، لا سيما في ظل العمليات الإرهابية، التي جرت وأدت إلى وفاة عشرات المدنيين حول مطار كابول.
فرنسيس لا يتوقف طويلا عند فكرة الاستقالة، بل يتجاوزها إلى الانخراط في القضايا المصيرية الحاسمة للبشرية، وفي مقدمتها قضية التغيرات المناخية، لهذا نراه يستعد لإلقاء كلمة مهمة أمام قمة المناخ القادمة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل في مدينة غلاسكو باسكتلندا، تلك القمة التي تتعلق بها مصائر وأقدار بشريتنا المعاصرة.
بدأت علاقة فرنسيس بالبيئة والطبيعة في مؤتمر الأساقفة الخامس في أباريسيدا سنة 2007، فيقول: سمعت الأساقفة آنذاك يتكلمون عن الحفاظ على الطبيعة، وعن المشكلات البيئية في الأمازون... لم تكن لدي أدنى فكرة.. لاحقا بدأت أفهم وأدركت أنه يتوجب علي فعل شيء.. ومن هنا ولدت الرسالة العامة "كن مسبحا"، والتي تدور حول ضرورة الاهتمام بالطبيعة والبيئة وعلاقة الإنسان بهما وحتمية المحافظة عليهما، وهي الرسالة التي لاقت ترحيبا كبيرا من المراقبين لأحوال البيئة والمناخ حول العالم، والجميع ينتظر كلمة البابا ومشاركته الشخصية في القمة القادمة.
ومما يدور في عقل البابا فرنسيس قضايا مهمة، مثل إصلاح الكوريا الرومانية، "حكومة البابا"، والمزيد من التقدم في شفافية الشؤون المالية للفاتيكان.
وفيما يتعلق بإصلاح حكومة البابا، يؤكد فرنسيس أن "الأمر يسير خطوة بعد خطوة بشكل جيد".
وكشف عن أنه هذا الصيف كان على وشك الانتهاء من قراءة الدستور الرسولي الجديد والتوقيع عليه، لكنه تأخر بسبب مرضه.
ولعل أنفع وأرفع ما يجري في حاضرة الفاتيكان في عهد البابا فرنسيس هو القدرة على نقد الذات ومراجعة نقاط القوة والضعف وتصحيح الأخطاء.
هنا على سبيل المثال، لا تزال مكافحة الفساد في مالية الفاتيكان قائمة، يقول البابا: "لقد تم إحراز تقدم في توطيد العدالة في دولة الفاتيكان، وقد سمح هذا للعدالة بأن تكون أكثر استقلالية بالوسائل التقنية حتى مع الشهادات المسجلة والأمور التقنية الحالية وتعيين قضاة جدد ومدعين عامين جدد".
يؤكد فرنسيس أنه لا يخشى الشفافية أو الحقيقة التي تؤلمنا كثيرا أحيانا، ولكنها هي التي تحررنا.. "الحقيقة هي ما يحررنا"، على حد قوله.
عقل فرنسيس غير مشغول بالاستقالة من منصبه كما يقال، بل انشغاله بكل ما يتصل بكرامة الإنسانية، فعلى سبيل المثال، تأتي القوانين الأخيرة التي سنت في إسبانيا، والتي تشرع الموت تحت عنوان كاذب، وهو ما يسمى بـ"الموت الرحيم"، لتجد "فرنسيس" وراء جدران الفاتيكان لها بالمرصاد، إذ يعتبر أن تشريع هذه الممارسة علامة على ثقافة الإقصاء، تلك التي تتغلغل في المجتمعات الحديثة، حيث يتم التخلص من كل ما لم يعد منه فائدة، حتى المسنون أصبحوا "مواد يمكن التخلص منها".. إنهم "مصدر إزعاج" للبعض، وكذلك المرضى المشرفون على الموت والأطفال "غير المرغوب فيهم" حسل أفكار مجتمعات اليوم، حسب قوله، في إشارة إلى عمليات الإجهاض.
"فرنسيس" غير معني بـ"إعصار الكونكلاف".. فهو يحيا حياة التسليم لله حتى النفس الأخير.. إنه مشغول بما ينفع الناس على الأرض إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة