النموذج التركي لتوظيف الشعبوية لتمرير الإيديولوجية يسير عكس حركة التاريخ، وسوف يلحق أضراراً هائلة بالأمة التركية.
قد يظن البعض أن صعود التيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا وأمريكا حالة جديدة فريدة من نوعها، والحقيقة أنها نمط تاريخي، يأتي في دورات متوالية تتعلق بصيرورة حركة التاريخ الغربي، ودوافعه الذاتية، وإحباطاته وانتكاساته، وتتعلق أيضا بالإدراك الجمعي للمخاطر الوجودية التي تهدد الذات الأوروبية العنصرية في جوهرها، التي تؤمن بسمو العرق الأبيض، والمتعصبة على المستوى الحضاري، من حيث الإيمان بتفرد الحضارة الغربية، وقيادتها للعالم، وعدم وجود حضارة أخرى يمكن أن تنافسها أو تحل محلها.
حين يتم تهديد الذات، وحين تفشل الصيغ الأخرى للوجود والتطور والتقدم، تنطلق الروح العنصرية المتعصبة في النفوس؛ فيظهر اليمين الشعبوي بصورة تلقائية، حدث هذا مرات كثيرة، فبعد فشل الثورة الفرنسية ١٧٨٩ في تحقيق أهدافها وشعاراتها في الحرية والمساواة والمؤاخاة، عادت الشعبوية في صورة الحركات القومية في أوروبا في القرن التاسع عشر، وبعد الفشل الذريع الذي منيت به التيارات الرومانسية، والماركسية، والسريالية في بدايات القرن العشرين؛ ظهرت التيارات القومية اليمينية الشعبوية فظهر هتلر وموسيليني ومعهما النازية والفاشية، وسيطروا على المشهد الأوروبي في النصف الأول من القرن العشرين.
واليوم بعد أن شعر العالم الغربي بالتهديد من كل صنف ومن كل جهة؛ تهديد ديموغرافي بانقراض العرق الأبيض على مستوى الأرض، وتناقصه من ٢٨٪ من سكان العالم ١٩١٦ إلى ١٨٪ من سكان العالم ٢٠١٦، وتهديد بزحف الملونين والمسلمين إلى أوروبا، وأمريكا بصورة تفقدها هويتها البيضاء، وتهديد بفقدان قيادة العالم علميا وتكنولوجيا أمام تقدم دول شرق آسيا، وتهديد بفقدان الهيمنة الاقتصادية على العالم أمام التنين الصيني الزاحف ببطء ليبتلع اقتصادات العالم الثالث، ويهدد أوروبا وأمريكا في عقر دارهما من خلال سلع رخيصة لا تقبل المنافسة، وتهديد بفقدان السيطرة العسكرية على الأرض لصالح روسيا التي تسعى إلى الثأر من حلف الأطلسي؛ لدوره في تفكيك الاتحاد السوفيتي، وإذلال العرق السلافي في روسيا والبلقان….كل هذا يوقظ النزعات الشعبوية اليمينية عند البيض في أوروبا وأمريكا، وبالتالي يعطي فرصة سانحة للأحزاب اليمينية الشعبوية للتقدم واغتنام الفرصة، وإعادة تشكيل المشهد السياسي بصورة تحقق أهدافها العنصرية المتعالية المتمركزة حول الذات.
النموذج التركي لتوظيف الشعبوية لتمرير الأيديولوجية يسير عكس حركة التاريخ، وسوف يلحق أضراراً هائلة بالأمة التركية في وضعها الداخلي، وفي علاقاتها مع العالم، وسوف يجر الوبال على المسلمين الصامتين على قرصنته لدينهم.
وهنا نحتاج إلى تفكير عميق رصين متزن، وفي الوقت نفسه بعيد المدى لقراءة المشهد بعيداً عن السطحية والعبثية؛ التي نراها في تعامل العرب مع ترامب، وكأنه نبت شيطاني، أو مخلوق خرافي هبط من السماء، أمريكا تحتاج ترامب الآن، وكل المعارضين له هوامش المجتمع، وليسوا التيار الرئيسي، لا قيمة لهم ولا وزن عند أمريكا البيضاء المسيحية.
نحتاج أن نحلل الأسباب في عمقها التاريخي، وفي أبعادها الفلسفية، وفي دلالاتها السياسية والمستقبلية، ونحتاج أن نقرأ تطوراتها المستقبلية بواقعية، وبدون أمنيات، نحتاج أيضا أن نبلور مواقف وسياسات واقعية بعيدة المدى، تدرك الواقع على ما هو عليه، وتتعامل معه طبقا لمعطياته.
وهنا نجد أن المقاربات الأيديولوجية للمشهد الدولي تغريد خارج السرب، وعزف بلحن لا يفهمه أحد، ولا يريد أن يستمع إليه أحد، فقد تجاوز العالم المعاصر الذي أعادت تشكيله وسائل التواصل الاجتماعي، وتتحكم في مفاصله التيارات الشعبوية، تجاوز هذا العالم كل الأيديولوجيات المغلقة، وأصبح يفضل إعادة إنتاج الممارسات والتطبيقات الناجحة، وتقليدها، وتكرارها، أكثر من تبني الأيديولوجيات المغلقة؛ حتى وإن كانت تعده بالجنة على الأرض.
في عصر الشعبوية لم يعد هناك مكان للأيديولوجيا، ولا لمنظومات الأفكار الكاملة؛ سابقة التجهيز، ولا للمثاليات البعيدة التحقيق، حتى وإن كانت تعد بالمدينة الفاضلة، لذلك فإن التنافس السياسي في الديمقراطيات الغربية؛ يفوز فيه من يستطيع مخاطبة الجماهير بخيالاتها وأحلامها، ويدغدغ مشاعرها، ويعدها بما تريد، ولا مجال هناك لمن يأتي بمنظومات فكرية عتيقة ليبرالية أو محافظة، وهذه كانت استراتيجية الرئيس ترامب في الانتخابات السابقة، وفي القادمة كذلك، وبهذا أيضا فاز الرئيس ماكرون في أول انتخابات خاضها حزبه في فرنسا.
وقد امتد هذا التيار إلى دول العالم الثالث؛ حيث نجد نموذج رئيس الوزراء الهندي "نارندرا مودي" من أنجح النماذج في توظيف الشعبوية لتحقيق أجندته السياسية سواء داخليا أو خارجيا، وكذلك النموذج الفلبيني مع الرئيس "رودريجو دوتيرتي" الذي وظف الخطاب الشعبوي في معالجة العديد من الأزمات التي تواجهها دولته، وفي إعادة ترتيب علاقاتها مع الولايات المتحدة والصين.
في ظل هذا التحول الكبير في المزاج السياسي العالمي نحو الشعبوية بفعل دخول الشعوب في العملية السياسية؛ بصورة قوية وغير مسبوقة؛ من خلال وسائل التواصل الاجتماعي يصبح من العبث الحديث عن الأيديولوجيات السياسية التقليدية، ويصبح كذلك من الانتحار صياغة سياسات تنطلق من رؤى أيديولوجية، وتسعى لتطبيق أيديولوجيات معينة في الواقع السياسي، وهنا يحضر نموذج تركيا أردوغان الذي يريد تحويل الفترة العثمانية؛ وهي تجربة تاريخية؛ سلبياتها تتجاوز كثيرا إيجابياتها إلى أيديولوجيا تاريخية ذات مرجعية دينية، وفي سبيل ذلك يوظف كل الوسائل الشعبوية الانتهازية لخلق حالة من المقبولية لهذه الأيديولوجية الفارغة من المضمون.
إن النموذج التركي لتوظيف الشعبوية لتمرير الأيديولوجية يسير عكس حركة التاريخ، وسوف يلحق أضراراً هائلة بالأمة التركية في وضعها الداخلي، وفي علاقاتها مع العالم، وسوف يجر الوبال على المسلمين الصامتين على قرصنته لدينهم، ومقامرته به في كل البورصات والصالات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة