قد لا تغير الكتب والمعرفة آلامنا.. ولا تحمينا من الظلم والشرور، لكنها تمنحنا آلاف الاحتمالات.. أبرزها "التغيير والتنوير".
دقائق معدودة من قراءة قصيدة لهوميروس أو جملة في مقال لعائشة النعيمي أو مقطع في رواية لـ"جوزيه ماورو" كفيلة بأن تحررك من القلق والخوف ويستقيم وجودك فتضمن الخلود.
انطلاقا من هذا المعنى الجوهري العميق، سأقف في هذا المقال على روايتين ساخرتين صدرتا حديثا، هما "حارس سطح العالم" لبثينة العيسى و"هيا لنشترِ شاعرًا" للبرتغالي أفونسو كروش، كإجابة شافية لقلق الإنسان الوجودي حيال ما يحدث في العالم.
لعل السخرية أسلوب شائع في الرواية، وقد اتُّخذ كمنهج فلسفي حواري تبناه سقراط، الذي كان يهرب الناس منه ويتفادون لقاءه في أسواق أثينا، خوفا من الوقوع في فخ سخريته الفلسفية، الكاشف لعمق الحياة، حتى لا يتحوّلوا إلى أضحوكة المدينة.
كذلك الأمر بالنسبة لـ"ميلان كونديرا"، فقد أدرك مبكرا أنه ليس بالإمكان -في عالم مخترَق رقميا- تغييره إلى الأفضل أو إيقاف جريانه البائس إلى الأمام سوى ألا نأخذه على محمل الجد، فذلك يُشعرنا بأننا أقل أهمية، وبالتالي أكثر حرية في التعبير.
وهكذا كل الكتاب والفلاسفة منذ عهد هيراقليطس حتى سارتر، المتوفَّى سنة 1980، يؤمنون بأهمية العقل الناقد الحُر لتفعيل أداء "الثَّقفنة".
الرواية الأولى بعنوان "هيا نشترِ شاعرًا" للبرتغالي أفونسو كروش، ويمكن اعتبارها "نوفيلا" لأنها أصغر حجما من الرواية، تتحدث عن اقتراح طريف بشراء الشعراء، مثلما نشتري أي بضائع أخرى من المحلات التجارية، وقد طلبت مراهقة مُدلَّلة من والدها شراء شاعر يُسلّيها ولا يكلف كثيرًا من الأموال ولا يترك أوساخا كـ"الرسامين" و"النحاتين".
بهذه الفكرة الساخرة، يُعرّي الكاتب العالم، الذي أصبح يقيس الناس بالأرقام وقيمتهم المادية، وتحدد العلاقات الإنسانية فيه بدرجة النفعية، وفي نص الرواية يسرد أفونسو كروش على لسان الفتاة: "عندما قلتُ لزميلاتي إنني حصلت على شاعر، سَرَى نوع من الحسد لديهن على ملكيتي الجديدة، وعلقت صديقتي: الشعراء ليس لديهم معرفة بأبسط ضروريات الحياة، لا سيما فيما يخص تناول الحبوب والخضراوات".
فردَّت عليها: "هذا غير صحيح. هناك دراسات تؤكد أن الحصول على رسام أو نحات أو شاعر يساعد على مقاومة الضغط ويخفض الكوليسترول، وهو ما يجعلنا أكثر إنتاجية وكفاءة، وفكرَتْ عند عودتها إلى البيت سؤال الشاعر عن ضروريات الحياة، فقالت له: هل تعتقد أن الخضار والفواكه على رأس الضروريات؟، ردَّ: لا، فسألته: وماذا إذًا؟، فقال: الحرية".
أما الكتاب الثاني لبثينة العيسى، "حارس سطح العالم"، تتحدث فيه عن رقيب يعمل في مكتبة، وهو مُكلّف بمراقبة مضامين الإصدارات الجديدة من الكتب وإلغاء تلك المخالِفة للقواعد العامة للمجتمع، يستيقظ من نومه متورطا في معنى الحياة والأسئلة الوجودية وهو جائع لكل أنواع الكتب الممنوعة بشكل لا يمكن علاجه، تماما كما استيقظ بطل الروائي كافكا في رواية "المسخ" ووجد نفسه قد تحوّل إلى حشرة.
وقُبيل تسلمه عقد العمل وقّع هذا الرقيب على تعهد يحميه من التأثر بما يقرؤه، حتى لا تصيبه لعنة المعرفة فيجادل ويحاجج فلسفيا، ويقول التعهد: "أنت حارس سطح اللغة.. إياك والتورط في المعنى، هل تعرف ما الذي يحل بأولئك الذين يسقطون في المعنى؟ تصيبهم لوثة أبدية ولا يعودون صالحين للحياة، مستقبل البشرية يتوقف عليك، أنت حارس سطح العالم".
وهكذا نجد أن رواية واحدة تمزج بين الفلسفة والكتابة الأدبية الساخرة هي بمثابة جواب شافٍ لقلق الإنسان المعاصِر المُحاصَر من كل صوب بقيود وبمتطلبات تدفعه للسعي لإثبات المكانة، وكأنه عاجز عن إقناع العالم بقيمته وأهميته، عالم يقتني فيه الناس رموزا تدلل على مكانتهم كـ"ترديد أسماء معارفهم المنحدرين من الطبقة المخملية" أو "التفاخر بامتلاكهم صنابير ذهبية في الحمامات".
وبالرغم من اختلافنا مع مبدأ الغاية والوسيلة، الذي تبناه مكيافيللي، فإنه كان يردد دائما على زوجته أن "الكتب هي خلاصُه نحو الحرية، فعندما يحل المساء ويعود أدراجه إلى البيت يدخل المكتبة ويقرأ لعباقرة العالم لمدة 4 ساعات متواصلة، حينها ينسى العالم.. وبعدها لا يتذكر ضَيْما ولا يخشى ظالما ولا يرتعد إزاء الموت ويصبح أكثر قوة على مقاومة ألم الحياة".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة