تنعقد حاليا الدورة 76 للجمعية العامة للأمم المتحدة، بعد تردد أمانتها في عقدها، سواء بحضور شخصي بسبب كورونا، أو افتراضي كالعام الماضي.
الواقع أن هذا التردد ليس هو المشكلة، وإنما المشكلة في الدور الراهن للأمم المتحدة في حفظ السلم والأمن الدوليين، ومنع المواجهات التي تجري في العالم، والتوقع بدور متصاعد للتنظيمات الإرهابية، والتحولات الدراماتيكية في المنظومة الدولية، وهذا أهم من إيلاء اهتمام بالشكليات، التي تُطرح وتدفع بمناقشة قضايا سطحية لا معنى لها في توقيت بالغ الأهمية للتنظيم الدولي بأكمله، وفي ظل صراع القوى الكبرى على مصالح آنية، وأخرى مرحلية، وحالة من الانقسام حول مواجهة التحديات المشتركة، التي سيتأثر بها العالم.
ومن المفترض أن تحظى هذه التحديات بالأولويات الكبرى، وليس بمناقشات مفتوحة وجدول أعمال ثابت منذ سنوات وبيانات ختامية فارغة التأثير.
التجديد مطلوب إذاً في مناقشة جدول أعمال مختلف، وليس مكررا، في ظل تنامي المخاطر المشتركة للبشرية، فعلي سبيل المثال، فإن مسألة تسييس اللقاحات والأمصال وجب أن يكون لها أولوية، خاصة أن فيروس "كوفيد-19" لا يزال هو التحدي الأكبر الذي يواجه العالم، ومواجهته أولوية كبرى تحسبا لما هو قادم من خطر حقيقي ومؤثر، وسط توقعات بالدخول في حقبة الفيروسات المميتة، وهو ما يتطلب التركيز على الجهود المشتركة والمباشرة، وليس الصراع الراهن بين المجمعات الطبية في العالم على التوصل للمصل الفاعل، وهو ما يجري حاليا ويشير إلى أن العالم لم يضع ضوابط أخلاقية في التعامل أو المواجهة، بل فضلت كل دولة العمل بمفردها، الأمر الذي سيستمر وسيمثل خطرا حقيقيا على مستقبل البشرية في ظل ترك البلدان الفقيرة تعاني من تفشي هذا الفيروس.
وتشير البيانات الأممية إلى أن 42% من سكان العالم تلقوا جرعة واحدة على الأقل من لقاحات "كوفيد-19"، غير أن أقل من 2% من هؤلاء يقيمون في الدول منخفضة الدخل، ومعلوم أن الولايات المتحدة تبرعت بأكثر من 110 ملايين جرعة لقاح إلى 60 دولة، وبالتالي فإن الأزمة مستمرة.
من المهم أيضا أن تركز الجمعية العامة للأمم المتحدة على وضع آليات محددة وملزمة للتعامل مع الأزمات، وليس المناشدة أو بحث أي ظاهرة من الخارج، وإلا فإن العالم مقبل على مرحلة حاسمة من عمر النظام الدولي، ستقوم على سيناريو عدم الإنصاف، وليس على أساس المساواة أو العدالة، التي طالبت بها الأمم المتحدة لسنوات طويلة دون أن تحقق خطوة إيجابية واحدة فيها، وذلك بسبب حالة السيولة السياسية في العالم، وعدم وجود قواعد منظمة، الأمر الذي سيؤدي في مجمله إلى حالة فوضى سياسية عالمية مثلما جرى في التعامل الأمريكي مع الأوضاع في أفغانستان، والتي ستكون بطبيعة الحال لها الصدارة في الطرح والاهتمام في الفترة المقبلة، في ظل المخاوف مما سيجري في العالم من تحولات ستتركز في منطقة آسيا، فالولايات المتحدة تعمل على محاصرة الصين، ومناكفة روسيا، بدليل عقد الترتيب الجاري سياسيا واستراتيجيا بين كل من أستراليا والهند واليابان في الأمم المتحدة، وبحضور الرئيس الأمريكي جو بايدن، والهدف المعلن منه هو محاصرة الصين.
هذا الأمر يؤكد أن الانخراط في منطقة المحيطَين الهندي والهادي أولية لدى "بايدن"، وهو ما سيشمل ترتيبات جديدة متعددة الأطراف لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين.
وهناك ملف آخر مهم مرتبط أساسا بالتعامل الدولي مع إيران، واحتمالات الاستمرار في المفاوضات حول برنامجها النووي وارد، خاصة مع إعادة ترتيب الخيارات الأمريكية الغربية في هذا الملف، بما فيها من تعقيدات حقيقية ينبغي التعامل معها بصورة مباشرة، وعدم تأجيلها، في ظل المخاوف من وصول إيران إلى مرحلة العتبة النووية.
وبالإضافة إلى ذلك، هناك أمور متعلقة بالملفات الإقليمية والدولية المفتوحة، والتي تحتاج إلى مراجعة، منها في الشرق الأوسط الملف السوري، ومحاولات روسيا إلحاق سوريا بالمنظومة الإقليمية والعربية والعلاقات العربية الإسرائيلية، وفي سياقها عملية السلام المجمدة منذ سنوات، الأمر الذي يتطلب النظر إلى ما يجري إقليميا ودوليا على أنه يجب أن يكون على رأس أولويات الجمعية العامة للأمم المتحدة، خاصة أن قضايا الجنوب ستظل منسية تماما، فضلا عن أن مشكلات مستجدة في أفريقيا وآسيا باتت تعلن عن نفسها، وتُعرف في العلاقات الدولية بأنها "قضايا مؤجلة" لا تنظر إليها الدول الكبرى وتغيب عن أروقة الاجتماع السنوي للجمعية العامة.
انعقاد دورة الجمعية العامة في موعدها حاليا يطرح تساؤلا مهما حول أولويات المنظومة الدولية لعالم ما بعد كورونا، والذي ينبغي الاهتمام به والتركيز على قضاياه، وليس الدوران في حلقة فراغ مستمرة وغير فاعلة وتكرار التناول وفق جدول أعمال بيروقراطي للأمم المتحدة، ما يفتح الباب على مصراعيه للتركيز على ما يواجه النظام الدولي من مخاطر وتحديات في ظل التنبؤ باندلاع موجة إرهاب جديدة.
ووسط حالة الارتباك والتعقيد في العالم، ومخاوف من عودة المقاتلين الأجانب إلى بلادهم، ونقل العناصر الإرهابية من وإلى داخل أوروبا والولايات المتحدة ومناطق آسيوية وجب التحسب جيدا وعدم الاكتفاء بما يجري، فهناك حروب أخرى تُدار في الخفاء ترتبط أساسا بحماية الدول الكبرى، أو تأمين حدودها وأراضيها، وهو ما يجري أمريكيا وروسيا وصينيا، وامتد أيضا إلى دول مثل فرنسا وبريطانيا، وما دون ذلك قد يتعرض لمواجهات واختراقات حقيقية تتطلب التعامل معها، ما يشير إلى غياب التنسيق أو التصميم على العمل من منظور واحد ومحدد قاصر وناقص.
يغيب إذاً دور الأمم المتحدة عن متابعة ما يجري من قضايا عدة، في ظل تصميم لافت من الدول الكبرى للإبقاء على وضع الأمم المتحدة كما هو حاليا، وعدم إفساح المجال للمنظمة العالمية لإتمام أي إنجاز، أو لعب أي دور في إطار حرب الصفقات الكبرى، أو المقايضات الدولية بين الدول الكبرى لتحقيق طموحاتها، حيث تغلب الإجراءات الفردية على الإجراءات الجماعية، كما يتجه العالم بدوله الكبرى لإقرار استراتيجيات تركز على المصالح العليا لمن يديرون النظام العالمي، وعدم مراعاة مصالح الدول الصغرى، التي تبحث عن موضع قدم، وتواجه معارك بقاء، كبعض مناطق أفريقيا، التي تعاني ظاهرة الانقلابات العسكرية والصراعات على السلطة والفشل في تحقيق نماذج تنموية جادة، ليزداد العالم المتقدم توحشا، ويبقى العالم النامي في موقعه، ويصبح السؤال الأهم: هل ينتهي دور الأمم المتحدة خلال السنوات المقبلة ويفسح المجال لمنظمة أخرى قد تكون أجدر على العمل وتحقيق الإنصاف والعدل بين الدول؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة