أرسلت روسيا ثلاث رسائل إلى تركيا مؤخرا بشأن الأزمة السورية.
الرسالة الأولى تمثلت في استقبال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره السوري بشار الأسد، وإعلانه خلال اللقاء أن مشكلة سوريا تكمن في وجود قوات أجنبية غير شرعية، في إشارة إلى القوات الأمريكية و"التركية".
ولعلها المرة الأولى، التي تتحدث فيها موسكو بهذه الطريقة بعد أن كانت تتحاشى الأمر، انطلاقا من التفاهمات الروسية-التركية، التي عقدت بشأن الأزمة السورية خلال السنوات الماضية.
الرسالة الثانية تمثلت في استقبال موسكو وفدا رفيع المستوى من مجلس سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية الكردية في شمال شرق سوريا، وفُهمت الرسالة الروسية بأن موسكو كفيلة بإيجاد تسوية سياسية بين الأكراد والحكومة السورية، ما يعني نزع الورقة الكردية، التي تتحجج بها تركيا في سياستها العداونية تجاه مناطق شمال شرق سوريا.
الرسالة الروسية الثالثة تمثلت في تصريحات وزير الخارجية الروسية، سيرجي لافروف، عندما أشار صراحة إلى أن تركيا "لم تنفذ التزاماتها بشأن منطقة خفض التصعيد في إدلب، وفي المقدمة منها فصل الجماعات الإرهابية عن المعارضة، وضمان أمن جانبي الطريق الدولي المعروف باسم إم 4".
عمليا تُرجمت هذه الرسائل على الأرض بتصعيد روسي تمثل في قصف جوي مكثف لمواقع الجماعات المسلحة في ريفي إدلب وحلب.
وقد اهتمت تركيا كثيرا بالرسائل الروسية هذه، قبل أن تعلن عن زيارة لرئيسها إلى روسيا نهاية الشهر الجاري للقاء "بوتين"، ومن المرجح أن يهيمن على هذا اللقاء الشأن السوري، في ضوء التطورات والمتغيرات التي تشهدها الأزمة هناك، لا سيما مع المرونة، التي تبديها واشنطن تجاه تخفيف الضغط والعقوبات على دمشق.
ما يمكن قوله إزاء رسائل روسيا إلى تركيا، إن الأزمة السورية تدخل مرحلة جديدة، وهي تقف على حدين، حد قبول تركيا بهذه المعطيات عبر اتخاذ إجراءات حقيقية على الأرض للجم الجماعات المسلحة، لا سيما "جبهة النصرة" الإرهابية، التي كبرت تحت أعين الاستخبارات التركية، والأهم أن تتحول هذه الإجراءات إلى اتصالات تركية-سورية قد تنتج تفاهمات.
وفي هذا الإطار ينبغي النظر إلى الأنباء، التي تحدثت مؤخرا عن لقاءات بين قادة الأجهزة الأمنية لسوريا وتركيا، "مملوك- فيدان"، إذ تريد موسكو ترتيب المشهد السوري على الحدود التركية-السورية بما يساعد على استعادة السيادة السورية.
والحد الثاني لأزمة سوريا مرتبط بالأول، فعدم قبول تركيا بالأوضاع الجديدة يعني فتح الباب على مصراعيه أمام التصعيد العسكري على جبهة إدلب، التي تحدثت دمشق مرارا عن عزمها المضي في استعادتها، ما يعني أن المطلوب من تركيا هو الانسحاب من مناطق في الريف الجنوبي لإدلب وتأمين الطريق الدولي "إم 4".
في طريق سعي موسكو إلى تحقيق هذه التفاهمات الجديدة، تدرك أهمية الجانب السياسي من خلال الدفع بأعمال اللجنة الدستورية إلى الأمام، وهو ما تركز عليه في نشاطها على جبهة العلاقة مع دمشق، وتُلح في أن تكون الجولة المقبلة للجنة الدستورية مختلفة على صعيد المضمون والنتائج، عبر التركيز على إعداد دستور جديد يُتفق على أبوابه الأساسية.
مثل هذا التوجه قد تجد فيه تركيا مخرجا مناسبا لسياستها في سوريا، إذ من شأن ذلك فتح الطريق أمام عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، ومثل هذا الأمر بات استحقاقا داخليا تركيا مع قرب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، لا سيما بعد أن تحولت قضية هؤلاء اللاجئين إلى نقطة قوية لصالح المعارضة التركية، التي تحمّل حكومة حزب "العدالة والتنمية" أعباءها على الداخل التركي، كما أن تركيا قد تجد في هذه العملية مسارا سياسيا لمعالجة الوضع القائم شرق الفرات، وما تزعمه تركيا حول وجود "تهديدات" لأمنها القومي، وهي تدرك أن روسيا في النهاية تنسق كل خطواتها مع الجانب الأمريكي، الذي يحاول التأسيس لخطوات تهيئ له ربما الانسحاب من المنطقة كلها بعد خطوة انسحابه من أفغانستان.
تدرك تركيا جيدا أن التدخل العسكري الروسي في سوريا أنتج معادلة جديدة على الأرض غيّرت من موازين القوى لصالح دمشق، وعليه باتت ترى أن اللعب مع الروسي من زاوية القوة قد يكلفها غاليا، لا سيما أن موسكو مستاءة من التحركات التركية في أوكرانيا وجورجيا وأذربيجان، خاصة أوكرانيا، التي أعلنت تركيا مرارا دعمها لها وتأكيدها عدم الموافقة على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، ما يشكل حساسية تاريخية خاصة لروسيا، التي قالت مرارا إن الموقف التركي بهذا الخصوص لن يؤخر أو يقدم في القضية شيئا.
هذا الاختلاف في الاستراتيجيات يؤكد من جهة محدودية التفاهمات التركية-الروسية بشأن الأزمة السورية، إذ إنها تبدو تفاهمات مؤقتة مرحلية، ومن جهة ثانية يؤكد حقيقة أن التقارب الحاصل بين البلدين لا يضع علاقتهما في موقع التحالف الاستراتيجي، وإنما هو أقرب إلى التكتيكي، الذي فرضته جملة من الظروف المتعلقة بتطورات الأزمة السورية، وبتوتر العلاقات التركية مع الغرب، بشقيه الأمريكي والأوروبي، لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها الآن.
من هنا باتت التفاهمات التركية-الروسية أمام لحظة مفصلية جديدة تطرح أسئلة كثيرة، لعل أهمها:
ما مصير التفاهمات الروسية-التركية السابقة بخصوص شمال شرق سوريا؟ وهل هناك إمكانية لتفاهمات جديدة؟ وإن كانت هناك إمكانية، فكيف ستكون هذه التفاهمات؟ وعلى ماذا ستكون؟ وعلى أي أساس؟
تدرك تركيا أن التفاهمات السابقة مع روسيا جاءت على وقع توتر العلاقات التركية مع الغرب، والدعم الأمريكي المتواصل لكُرد سوريا، وأن التقارب بينهما أنتج مصالح ومشاريع اقتصادية في مجالات السلاح وخطوط الطاقة وبناء مفاعلات نووية تركية، مقابل تغاضي روسيا عن عملياتها العسكرية العدوانية في شمال سوريا.
ربما سيركز الرئيس التركي في لقاء "بوتين" على التعبير عن خوفه من حصول موجات نزوح جماعية إلى بلاده إذا حصلت عملية عسكرية جديدة في إدلب، وربما يطلب من موسكو الضغط على دمشق لوقف التصعيد العسكري وإنجاح عمل اللجنة الدستورية، فيما تتعلق مقاربة موسكو الأساسية بكيفية التخلص من الجماعات المسلحة في شمال غرب سوريا، وهو شعار تريد منه روسيا بسط كامل السيطرة على هذه المنطقة، كي تفرض وقائع جديدة على الأزمة السورية وتسويتها بالتعاون مع الجانب الأمريكي.
بالتأكيد مثل هذا الأمر سيُلقي بظلاله، ليس فقط على التفاهمات الروسية-التركية السابقة، وإنما أيضا على الوجود التركي والإيراني في سوريا خلال المرحلة المقبلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة