الكلام صار أقوى من النابالم في عصر شبكات التواصل الاجتماعي حيث يتم حرق مجتمعات كاملة بكلمات تصدر من هذه الفضائية أو تلك.
عندما تضعف الأمم يكون أول أسباب ضعفها تراجع مكانة العقل ودوره فيها، وتعاظم أدوار اللسان، وانتشار الضوضاء الصوتية التي تحدثها كلمات فارغة من المعاني، ومن ثم يتجادل الناس حول مباني الكلمات وليس معانيها، ويتصارعون حول اللامعنى، ويتقاتلون على ألفاظ لا حقيقة في الواقع لها، لأن هناك حالة انفصام بين اللفظ والمعنى؛ حيث تكون هناك دلالات ومعان متناقضة ومختلفة لكل لفظ، وكل إنسان يستخدمها حسب ما يريد، في هذه الحال تسود حروب الكلمات، وتُصنع الحقائق بالكلمات، ويتم النصر والهزيمة بالكلمات.
من الصدق أن نقول إن قناة الجزيرة أسهمت في إشعال الفتن في العالم العربي، ولكن العدل يلزمنا أن نقول إن الشيء نفسه قامت به وبصورة أقل احترافية قناة المنار وقناة الميادين وقناة المسيرة، وجميع القنوات الطائفية على ضفتي الأخدود الشيعي السني
كانت هذه الحال خطيرة حين كان التواصل بين البشر مباشراً، ولم تكن اخترعت الصحف أو الفضائيات أو الشبكة العنكبوتية، فقد أدى فيضان الكلام إلى انهيار حضارة اليونان القديمة، فقد كان المتلاعبون بالألفاظ الذين أطلق عليهم السفسطائيون هم آخر مراحل الحضارة اليونانية وبداية انهيارها، كذلك تمزقت الأمة الإسلامية في العصر العباسي الثاني بعد أن انشغل الجميع بالكلام وتركوا العمل، وبعد أن صارت إبداعات العقل كلمات يتحارب حولها المجتمع وينقسم.
والآن صار الكلام أقوى من النابالم في عصر شبكات التواصل الاجتماعي، حيث يتم حرق مجتمعات كاملة بكلمات تصدر من هذه الفضائية أو تلك، أو من هذا الشيخ أو ذاك، أو من الناشط السياسي المقيم خارج الديار مسترخيا على أريكته، يشعل الثورات ويدمر الديار، صار الكلام أشد تأثيراً من السلاح، بل صار هو محرك السلاح، بل صار من يحمل السلاح جماداً أو آلة يحركها صاحب اللسان البليغ الذي يتحكم في عقل الآلة حاملة السلاح ويحركه كأنه إنسان آلي، لذلك لا بد من تعديل القوانين لجعل من يحركون المجرمين بفتاويهم ووعظهم هم الفاعلين الحقيقيين للجرائم، أما البلهاء المنفذون فهم مرضى يحتاجون إلى العلاج والتأهيل.
هذه الحال العبثية استدعت حديثا للشيخ الشعراوي رحمة الله عليه؛ حين كان يفسر قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: ١١٥]، هنا طرح الشيخ الشعراوي سؤالا: هل يمكن أن يكون الكلام صدقاً ولكنه ليس عدلاً؟ وكانت الإجابة بالتأكيد نعم؛ لأنه من الصدق أن تذكر جريمة شخص معين ولكنه ليس عدلاً، لأن العدل أن تذكر كل من يفعل هذا الفعل مثله، ولا تفرده هو بالاتهام وحده ليظهر وكأنه المجرم الوحيد والباقون أتقياء أنقياء.
بهذا الميزان العقلي -ميزان الصدق والعدل- تستقر المجتمعات وتنتظم في سيرها، وتحقق النهوض والتقدم والسعادة لأفرادها، لأنه لن يتم التلاعب بالكلمات لتدمير المجتمعات، كما هو حادث اليوم في عالمنا العربي، الذي صار خرائب تنعق على أطلالها فضائيات، ومثقفون وناشطون ومشايخ وثوار، الجميع احترفوا النعيق على أطلال المدن العربية والدول العربية، وهم يخدعون الجماهير بكلام ظاهره صدق ولكنه ليس عدلاً.. هنا يختل الميزان الإلهي وينقص وينهار كل شيء.
فمن الصدق أن نقول إن صدام حسين كان طاغية ودكتاتوراً، ولكن العدل يستلزم أن نقول إن كل من جاءوا بعده طغاة صغار، ومستبدون أقزام، وزادوا عليه أنهم فاسدون وخونة، سلموا بلادهم على طبق من فضة لعدوها التاريخي، ودمروا مجتمعهم ونشروا الأمية والتطرف والفساد الأخلاقي، كل ذلك تحت شعارات دينية لا علاقة لهم ولا أفعالهم بها.
من الصدق أن نقول إن نظام بشار الأسد ارتكب من الجرائم في سوريا ما يفوق الوصف، ولكن من العدل أن نقول أيضاً إن الذين يقدمون أنفسهم بديلا له -ومن ورائهم أردوغان- أكثر إجراماً منه، لأنهم احتموا بالمدنيين حتى يتاجروا بضحاياهم، وارتكبوا جرائم النظام نفسها في المناطق التي لم تخضع لهم، وزادوا عن بشار أنهم صاروا عملاء لدول طامعة في وطنهم، وأصبحوا أدوات يحركها من يدفع فواتير فنادقها.
من الصدق أن نقول إن قناة الجزيرة أسهمت في إشعال الفتن في العالم العربي، ولكن العدل يلزمنا أن نقول إن الشيء نفسه قامت به وبصورة أقل احترافية قناة المنار وقناة الميادين وقناة المسيرة، وجميع القنوات الطائفية على ضفتي الأخدود الشيعي السني.
من الصدق أن نقول إن مؤسسات الدولة المصرية فيها فساد عميق وخطير، ولكن من العدل أيضاً أن نقول إن المجتمع المصري أكثر فساداً من الدولة، ويكفي أن نعدد حالات الغش في الطعام والشراب، وحالات سرقة الأعضاء التي يقوم بها الأطباء، وحالات السرقات العلمية وبيع الامتحانات في الجامعات والمدارس، فساد المجتمع المصري أكبر بكثير من فساد مؤسسات الدولة، وقد يزيد الأمر عجباً أن من يتصدون لمحاربة الفساد من المثقفين والناشطين هم جزء أصيل فيه ومنه.
من الصدق القول إن الخطاب الديني في مصر والعالم العربي هو سبب رئيسي في انتشار التطرف والعنف والتخلف، ولكن من العدل أن نقول إن الخطاب الليبرالي واليساري أكثر تخلفاً، وهو يقدم المبررات للمتطرفين والمجرمين منهم، من خلال عدائه الأصيل للدين، واحتفاله بكل ما يهين ثقافة المجتمع وينال من مقدساته، وأن الخطاب الثقافي والفني الذي تحركه غرائز حيوانية ويتحكم فيه التجار والمقامرون ينتهك كل المحرمات، ويقدم مبررات جاهزة وواضحة كالشمس لدعاة التطرف والعنف والإجرام.
من الصدق أن نقول إن القوى الأجنبية تتآمر على العالم العربي، سواء أكانت تلك القوى إقليمية أم دولية، ولكن العدل يلزمنا أن نقول إن مؤامرات العرب بعضهم على بعض أقوى وأشد من جميع مؤامرات الكون علينا.
لن نخرج من حالنا هذا حتى نلتزم بقانون "الصدق والعدل"، هنا فقط.. سوف تشهد مجتمعاتنا هدوءاً واستقراراً، وتتوقف الحروب الكلامية التي صارت تشعل الحروب الفعلية وتزهق الأرواح وتشرد البشر، وتهدم العمران وتخرب المدن، وهذه قاعدة بسيطة جداً يستطيع كل إنسان أن يطبقها على نفسه، ولا تحتاج إلى دولة لتلزم الناس بها، ولا إلى نظام دولي ليفرضها بالقوة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة