الانفصال عن الواقع، والانكفاء داخل فترة تاريخية، ربما يكون هو التفسير الأكثر منطقية لحالة الفصام التي تعيشها الجماعات الإسلامية
قد نختلف مع الإعلامي المصري يسري فودة، لكننا لا يمكن إلا أن نحترم مهنيته. وقد انتهيت مؤخراً من قراءة كتابه "في طريق الأذى.. من معاقل القاعدة إلى حواضن داعش".
وهو كتاب مهم في رأيي، يجب أن يطّلع عليه كل من يمارس مهنة الصحافة التلفزيونية، والاستقصائية منها على وجه الخصوص، لأنه يقدم تجربة، قليلاً ما يُتاح لصحافي أن يحظى بها، حيث يعرض فيه لفرصتين فريدتين في عمله الصحافي، أتيح له في الأولى منهما أن يلتقي بالعقول المدبّرة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر في تنظيم "القاعدة"، الذي تبنى هذه الهجمات، وأتيح له في الثانية عبور الحدود من سوريا إلى العراق، مع مهربين في أعقاب الغزو الأميركي للعراق، في قصة لم تكتمل لإجراء لقاء خاص مع "أمير الجماعة" التي كانت تتشكل هناك، حيث سيسمح له بحضور وتصوير عدد من "المشاهد الملتهبة" مع مجموعة من المقاتلين، عندما كان العراق يتحول إلى حاضنة لأولئك "المجاهدين"، الذين فشل مشروعهم في أفغانستان، بعد تشريد زعماء "القاعدة" الذين كانوا يتخذون من تلك البلاد مركزاً للقضاء على "الغرب الكافر" وإقامة الخلافة الإسلامية، حتى إذا ما فشل ذلك المشروع في تلك الديار، هاجرت بقاياهم إلى العراق، الذي سقط في الفوضى، لتتخذ منه أرضاً لمقاتلة الكفار، والانطلاق لتنفيذ مشروعها الذي سيبقى كامناً في وجدانها، حتى لو تعرّضت لنكسة أخرى، وهذا ما يبدو حتى الآن، بعد اندحار تنظيم "داعش" في العراق، وملاحقة فلوله في بلاد الشام.
تنبع أهمية الكتاب، من كونه يلقي الضوء على كواليس مهنة الصحافة الاستقصائية من ناحية، وعلى الثقة التي كانت تحظى بها قناة "الجزيرة"، التي كان فودة يشغل وقتها منصب نائب المدير التنفيذي لمكتبها في لندن، حيث بادرت "القاعدة" إلى الاتصال به من كراتشي، لتعرض عليه إجراء لقاءات مع صانعي أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لعرضها في الذكرى الأولى لها. وقد وجّه المؤلف الشكر للقناة في بداية الكتاب، قائلاً إنها منحته فرصة لإضافة مدخل إلى صحافة التحقيقات الاستقصائية التلفزيونية بعيون عربية، ولا يغيّر من هذه الحقيقة موقفه من توجهات القناة بعد ذلك، حسب قوله.
كما تنبع أهمية الكتاب من كونه يكشف الستار عن حجم اهتمام القيادة القطرية، ممثلة في حاكم قطر السابق، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني شخصياً، بقناة "الجزيرة"، حيث يذكر المؤلف كيف حرص الشيخ حمد على لقائه، مع رئيس مجلس إدارة القناة، في مطعم بيتزا إيطالي متواضع بوسط العاصمة البريطانية لندن، للاستفسار عن أشرطة المقابلة التي أجراها في باكستان مع المنسق العام لعملية 11 سبتمبر، رمزي بن الشيبه، ورئيس اللجنة العسكرية لتنظيم "القاعدة"، خالد شيخ محمد، قبل أن يسقطا في يد الولايات المتحدة الأميركية بعد تلك المقابلة بشهور قليلة، ويكشف مدير وكالة الاستخبارات الأميركية وقتها "جورج تينيت"، أن الشيخ حمد بن خليفة، هو من قدّم لهم هذه الهدية، كما يذكر الكاتب الأميركي "رون ساسكيند" في كتابه "مبدأ الواحد في المئة".
ما يثير السخرية، أن سلفياً جهادياً، مثل عمر بكري، مؤسس جماعة "المهاجرون" في لندن، حيث كان يعيش على أموال الضمان الاجتماعي من جيوب دافعي الضرائب، يعتبر بريطانيا دار حرب، وأن متطرفاً آخر، يقبع الآن في أحد سجونها، هو المصري مصطفى كامل، الشهير بـ "أبو حمزة"، يعتبرها دورة مياه مؤقتة!
لعل اقتراب يسري فودة ممن يُطلَق عليهم "الجهاديون الإسلاميون"، جعله يطّلع على الفكر الذي ينطلق منه هؤلاء "الجهاديون". ففترة صدر الإسلام، كما يقول الكاتب، لها تأثير مغناطيسي في السلفيين الجهاديين، ولها نكهتها وعبقها وطقوسها ورؤاها وأساطيرها وقاموسها الفريد.
والناس وفقاً لفهمهم معاني هذه الفترة، منقسمون إلى ثلاثة أقسام جامدة: مسلمون، وكفار، ومنافقون. والمسلمون أنفسهم منقسمون في قاموسهم إلى قسمين: مهاجرون، وأنصار.
والعالم منقسم عندهم إلى دارين: "دار حرب" تحل للمسلمين دماء أهلها وأموالهم وأعراضهم، و"دار سلم" في اتفاق مع المسلمين أو على الحياد. لكن ما يثير السخرية، أن سلفياً جهادياً، مثل عمر بكري، مؤسس جماعة "المهاجرون" في لندن، حيث كان يعيش على أموال الضمان الاجتماعي من جيوب دافعي الضرائب، يعتبر بريطانيا دار حرب، وأن متطرفاً آخر، يقبع الآن في أحد سجونها، هو المصري مصطفى كامل، الشهير بـ "أبو حمزة"، يعتبرها دورة مياه مؤقتة!
هذا الانفصال عن الواقع، والانكفاء داخل فترة تاريخية مضى عليها أكثر من 14 قرناً حتى الآن، ربما يكون هو التفسير الأكثر منطقية لحالة الفصام التي تعيشها الجماعات الإسلامية المتشددة.
وهو ما يجعلها تبرر لنفسها ما تقوم به من عمليات، تحت تأثير الشعور بالمظلومية التي عانى المجتمع الإسلامي الأول منها، عندما كانت الدعوة في طور محاولة إقناع مجتمع مكة بتقبل الدين الجديد، ثم الهجرة إلى المدينة، وانقسام مجتمع المسلمين إلى مهاجرين وأنصار.
هذه الفكرة فرضت على مؤسسي تنظيم "القاعدة"، تطبيق التقسيمة نفسها، عندما انتقلوا إلى أفغانستان ليقيموا فيها مشروعهم، وينطلقوا منها إلى "غزواتهم"، التي تصوروا أنها لن تختلف عن "غزوات" المسلمين الأوائل، رغم اختلاف العصرين، وعدم توفر الظروف التي تهيأت لتلك "الغزوات" الخالدة في التاريخ الإسلامي، حيث كانت تتم بتوجيه سماوي، ولأسباب تختلف عن الأسباب التي يسوقها لنا "السلفيون الجهاديون" في هذا العصر، لاغين بذلك حركة التاريخ، والتطور الطبيعي للمجتمعات، وميزان القوى الذي يفرض نفسه في كل المعارك التي تقع بين البشر، والذي هو ليس في صالح هذه الجماعات، مهما كانت قوة إيمان أفرادها بأنهم على حق، وأن غيرهم على باطل، فحتى الحق نفسه بحاجة إلى قوة تسنده، وقوة هذه الجماعات تبقى محدودة مهما تصورت أن أنصارها كثر، وإن كان ضررها كبيراً على الإسلام نفسه.
نقلا عن "البيان"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة