الفقه القائم والمتداول اليوم هو وبلا جدال فقه قديم جدا، قادم من مرحلة تاريخية موغلة في القدم.
الفقه القائم والمتداول اليوم هو وبلا جدال فقه قديم جدا، قادم من مرحلة تاريخية موغلة في القدم، إذ لم يشهد التاريخ الإسلامي منذ القرن التاسع الميلادي ظهور مصنفات وأعمال فقهية جديدة؛ جديدة في آلياتها وأفكارها وخطابها، إذ مثلت تلك الفترة تأسيسا لمنهج فكري يقوم على الثبات والأحادية وكثير من الصرامة والحدة إضافة إلى أنه مرتبط بالجغرافيا والأحداث التي ظهرت فيها.
أخطر ما في تلك المراجع الفقهية أنها مراجع؛ أي أن كل ما سيأتي بعدها يجب أن يدور في فلكها شرحا وتفسيرا وتحقيقا لكن الآليات والأدوات البحثية ظلت ثابتة كما هي، وساعد على ذلك كثرة الاستدلال بالمرويات الحديثية والنقلية وتراجع كبير في قراءة وبحث النص القرآني مما توجد خطا موازيا لعملية التشريع وبناء الأحكام الفقهية تكاد تكون في جانب كبير منها مجافية لما جاء به التنزيل الحكيم.
تغير العالم وتغيرت الحياة ولم يعد بالإمكان أن تدار قضايانا وأن تبنى مواقفنا الشرعية الفقهية على ذلك الإرث القديم، ولذا وصلنا إلى مفارقة كبرى بين ما هو قائم وموجود في الدرس الفقهي والوعي الديني العام وبين ما نمارسه في حياتنا اليومية
1. إنه الفقه العربي الذي تأثر بالأزمة الكبرى التي مرت بها اللغة العربية والمتمثلة في طغيان علوم النحو والصرف على حساب علوم الدلالة وفقه اللغة، ولأن نصوص الحديث الشريف لا تحتاج إلى تأويل وذات معانٍ واضحة ومباشرة فقد كانت أسهل للاتكاء عليها استدلالا واستشهادا إلى الدرجة التي ربما هيمنت معها على نصوص التنزيل الحكيم. ورافق ذلك سطوة عارمة لأسماء ومصنفات تاريخية باتت ثقافة الدرس الفقهي تتخوف من نقدها أو الدعوة لإعادة قراءة نتاجها الفقهي.
ومثلما حدث ذلك في الفقه السني حدث ذاته أيضا في الفقه الشيعي وانتهت الثقافة العربية والإسلامية لتصبح رهينة لحظة ماضوية موغلة في القدم.
تلك المرجعيات الفقهية على مستوى الأسماء والمصنفات مثلت الأساس الذي انطلق منه التعليم الديني وبالتالي الوعي الديني العام.
تغير العالم وتغيرت الحياة ولم يعد بالإمكان أن تدار قضايانا وأن تبنى مواقفنا الشرعية الفقهية على ذلك الإرث القديم، ولذا وصلنا إلى مفارقة كبرى بين ما هو قائم وموجود في الدرس الفقهي والوعي الديني العام وبين ما نمارسه في حياتنا اليومية.
هذه القضية لا ترتبط ببلد بعينه وليست خاصة بجماعة دون غيرها، بل هي أزمة في الوعي العام وباتت تمتلك أدوات الدفاع والهجوم على كل مشروع جديد من شأنه أن يعيد صياغة الوعي الفقهي العام وإعادة بناء مفهوم جديد للتدين والالتزام.
الكثير من المؤسسات والهيئات الفقهية في العالم الإسلامي لا يبدو أنها قادرة على تقديم مشاريع نوعية وجديدة، ومع أن بعضها تسجل مواقف جديدة ومؤثرة لكنها تظل مجرد مواقف لا تمثل مشروعا متكاملا ومستقبليا.
ولأن ثمة استهلاكا يوميا في المدارس بمختلف مراحلها للفقه بصفته مقررا دراسيا يمكن التفكير في أن تضطلع المؤسسات التي تقود التعليم بدور جديد وتعمل على بناء منهج تعليمي جديد لا تتمثل مهمته في تقديم أحكام ومواقف فقهية جديدة فحسب بل في إعادة صياغة طريقة التفكير الديني لدى مختلف الأجيال والخروج من المنقول القديم والاعتماد على المصنفات القديمة إلى بناء فقه واقعي ينطلق من الواقع والمستقبل ومن حيوية النص القرآني العظيم الذي لا تحده الأزمنة ولا الجغرافيا. ومن شأن مشروع كهذا أن يسهم في تحجيم الوعظ الحكواتي القائم على التخويف والصراخ وسرد القصص المفتعلة من أجل التأثير في المستمعين.
سيمثل الخروج من تدريس الحكم في دائرة الحرام والحلال إلى آلية بناء الحكم وأولوية النصوص في الاستشهاد والعودة الواعية إلى النص القرآني بداية لتحول كبير في الوعي العام، ولأن الناس في حياتهم اليومية ليسوا في درس فقهي وقد لا يتناولون تلك النقاشات إلا في أحاديث جانبية بينما في مؤسسات التعليم هناك استهلاك يومي لتلك القضايا في مختلف المواد الدينية ربما تكون تلك المؤسسات اليوم هي المعنية بصناعة مشروع جديد.
نقلا عن "عكاظ"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة