لكي نفهم موقع التعليم الديني وماهيته لابد من الإحاطة، بعمق، بجوهر فلسفة العملية التعليمية المنظمة التي تقوم عليها الدول والمؤسسات.
لكي نفهم موقع التعليم الديني وماهيته ووظائفه لابد من الإحاطة، بعمق، بجوهر فلسفة العملية التعليمية المنظمة التي تقوم عليها الدول والمؤسسات، فلأنه لابد من وجود مكون قيمي في جميع نظم التعليم في العالم، يظهر هذا المكون في صورة تعليم ديني في المجتمعات التي تأسست على الدين، ويظهر في صورة قيم عامة في المجتمعات التي قامت على نظم فلسفية مثل المجتمعات البوذية والهندوسية، أو على خليط بين فلسفة القيم والدين مثل المجتمعات الغربية خصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية.
من هنا فإن التعليم الديني هو عملية إكساب منظومة متماسكة متمازجة من المعارف والقيم الفردية والجماعية التي تنعكس في السلوكيات، والتي تشكل الوعي الجمعي للمتعلمين، وتعدهم لأنْ يكونوا على أعلى درجات الإنسانية والتهذيب والرقي والتحضر، بما يجعلهم نموذجا للإنسان المنتمي إلى حضارة عريقة
ولكي ندرك طبيعة ودور هذا المكون لابد من الغوص العميق للوصول إلى المقاصد العليا للعميلة التعليمية برمتها سواء ما قبل الجامعية أو الجامعية، هذه العملية التعليمية تهدف إلى تحقيق ثلاث غايات أساسية هي:
• بناء الإنسان القادر على أن يعيش حياة سعيدة منتجة، ومفيدة لنفسه ولمجتمعه وللكون، ويتم ذلك من خلال إكساب ذلك الإنسان القيم والمهارات الإنسانية الأساسية التي تجعل منه إنسانا متحضرا، يتصف بالقيم الراقية، والسلوكيات المنضبطة، التي تنعكس في جميع الأدوار التي يقوم بها منذ طفولته وحتى وفاته.
• تكوين المواطن الذي ينتمي إلى مجتمع معين ودولة معينة وحضارة معينة، وذلك من خلال تعليمه كل ما يتعلق بالمواطنة بمعناها الواسع الشامل للمجتمع والدولة والثقافة والحضارة.
• إعداد صاحب المهنة القادر على العمل في أحد مجالات الحياة بصورة متقنة ومتميزة ومشاركة في الخير العام للبشرية، ومحققة لمصالح أسرته ومجتمعه والإنسانية.
هذه القيم الكبرى، أو الغايات العليا تحدد كل جزيئات العملية التعليمية وهيكلها، ومراحلها، ومكوناتها، وتحدد النسب التي تُقدم من كل موضوع، والطريقة التي تقدم بها من الروضة وحتى نهاية المرحلة الجامعية.
ولذلك قبل البدء في أي عملية إصلاح على أي مستوى لابد من أن تكون هناك رؤية واضحة لهذه الفلسفة، ولابد من أن تكون هناك وثيقة تُجمع عليها القوى الفاعلة في المجتمع، وتكون دستوراً تربويا يحكم كل جزئيات العملية التعليمية فيما بعد، وبدون هذه الوثيقة الضابطة لإيقاع العملية التعليمية ستتعرض أية عملية إصلاح للتشويه والارتباك والجزيئة التي قد تقود إلى التصادم بين مكونات العملية التعليمية بما يجهض أهدافها ويربك المجتمع ويعيق التنمية، ويهدد المستقبل.
وهنا نجد أن التعليم الديني يحتل موقع القلب في الغاية الأولى؛ إذ يقدم الدين منظومة القيم التي تأسس عليها المجتمع المصري، الذي حافظ على تراثه وتقاليده بصورة نادرة، قد لا تتحقق في أي مجتمع آخر على ظهر الأرض، وقد كان الدين هو محور هذه القيم والتقاليد والأعراف.
وفي الوقت نفسه، فإن التعليم الديني يؤهل قطاعاً من المتعلمين لأنْ يكونوا أصحاب مهن فيما بعد في كل ما له علاقة بالشأن الديني، وهو قطاع أساسي في بنية المجتمع، وبذلك يكون التعليم الديني قد أسهم في الغايات الكبرى الثلاث للعملية التعليمية بصورة متدرجة من حيث عمق التأثير ومركزية الدور.
ومن هنا، فإن التعليم الديني هو عملية إكساب منظومة متماسكة متمازجة من المعارف والقيم الفردية والجماعية، التي تنعكس في السلوكيات، والتي تشكل الوعي الجمعي للمتعلمين، وتعدهم لأن يكونوا على أعلى درجات الإنسانية والتهذيب والرقي والتحضر، بما يجعلهم نموذجا للإنسان المنتمي إلى حضارة عريقة ومجتمع متسامح، وثقافة منفتحة على التاريخ والعالم.
وتأسيسا على هذا، فإن التعليم الديني من حيث هو تعليم للقيم والأخلاقيات والسلوكيات النبيلة ينبغي أن يكون من ضمن مكونات كل المنظومات التعليمية، مع مراعاة طبيعة تلك المنظومات وما تحتاجه من قيم طبقا لمخرجاتها وأهدافها وغاياتها.
أما من حيث وظائف التعليم الديني فيمكن حصرها في الآتي:
• أن التعليم الديني هو الذي يغرس منظومة القيم الأساسية للمجتمع ويحافظ عليها وينقلها من جيل إلى جيل.
• أنه يشكل الملامح العامة للثقافة الوطنية التي تتميز بالاعتدال الديني، والانفتاح الفكري، والتنوع الثقافي الثري، والتعاطي الإيجابي مع الإنسان والعالم، والتذوق الجمالي الراقي للفنون والآداب.. إلخ.
• أنه هو الذي يرسخ قيم الهوية والولاء والانتماء، بما ينعكس في حالة من الاستقرار السياسي، والاستمرار المتدفق للعطاء من قبل الحاكم والمحكوم.
• أنه يعد الإنسان للقيام بأدواره الاجتماعية المتنوعة من حسن البنوة إلى إحسان الأبوة.
• أنه يحافظ على التقاليد الثقافية والقانونية التي مكنت المجتمع من الاستمرار لقرون في حالة من الاستقرار الإيجابي.
• أنه يسهم في تكوين جيل من المشتغلين بالشأن الديني ابتداء من الوعظ والخطابة إلى البحث العلمي والتدريس الجامعي والإنتاج المعرفي القادر على المنافسة مع أفضل عقول العالم.
• أنه يحول دون اختراق المجتمع من قبل تيارات دينية وافدة استطاعت إرباك وتفكيك مجتمعات أخرى، وأدخلتها في حروب أهلية قد لا تنتهي إلا بنهاية الدولة ذاتها، والمجتمع نفسه.
بهذه العجالة الموجزة يمكن القول إن التعليم الديني هو أولاً: الأساس القيمي للمجتمع والدولة والثقافة، وهو ثانياً: وسيلة من أهم وسائل حماية الأمن القومي، وهو ثالثا: واحد من أهم مصادر نفاذية الثقافة في العالمين العربي والإسلامي، وهو رابعاً: من أهم دروع حماية أمن المجتمع واستقراره واستمراره، وهو أخيرا: مصدر من مصادر الدخل القومي إذا كان من الممكن أن يتحول إلى قوة ناعمة خارجيا.
نقلاً عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة