في سياق التحولات الجوهرية التي تجري في أنحاء مختلفة على مستوى العالم، انعقدت يومي 27 و28 يوليو/تموز الجاري الدورة الثانية لقمة روسيا وأفريقيا في مدينة سانت بطرسبرغ الروسية.
ما بين القمتين الأولى والثانية حدث أن روسيا استعادت كثيراً من قوة وتطلعات الاتحاد السوفياتي السابق كقوة عظمى، وأن أفريقيا المساحة الجغرافية والكتلة السكانية الأكثر تأثراً بمجريات الأحداث في العالم، خصوصاً ما يتعلق منها بالتوازنات والاستقطابات العالمية، حيث إن الولايات المتحدة هي الأخرى كانت قد استضافت قمة أفريقية في ديسمبر/كانون الأول الماضي وأعقبتها جولة أفريقية قام بها وزير الخارجية الصيني المخلوع تشين غانغ في يناير/كانون الثاني الماضي.
ولانعقاد القمة للمرة الثانية دلالات وتداعيات مهمة، بعد أن استضافت مدينة سوتشي الروسية القمة الأولى عام 2019. ولا تقتصر تلك الدلالات على النطاق الثنائي في العلاقات بين روسيا والدول الأفريقية، بل تشمل أيضاً وبصورة أكبر، طبيعة ومستقبل النظام العالمي.
هذا الارتباط بين قمة روسيا - أفريقيا وتغيرات المشهد العالمي، كان حاضراً بقوة بل وبوضوح في مجريات القمة ونتائجها. وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صريحاً ومباشراً في كلمته الختامية بالقمة، التي اعتبر فيها أن الدول المشاركة في القمة قد أكدت مجدداً "الالتزام بتشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب عادل وديمقراطي".
أي أن روسيا التي تقوم بتحركات في اتجاهات متعددة من أجل تغيير النظام العالمي القائم وتشكيل نظام عالمي جديد ومختلف، بدأت توسع دائرة تحركاتها لتشمل أفريقيا، بعد أن كانت مقتصرة على قوى كبرى مثل الصين ودول صاعدة مثل البرازيل.
دخول أفريقيا على خط التوازنات الدولية والمشاحنات الجارية بين أقطاب النظام العالمي الحالي، من شأنه أن يضع القارة الأفريقية بشكل عام على خط المواجهة مع الغرب، خاصة القوى الكبرى فيه وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. على أن الأعباء المترتبة على هذا التوجه الأفريقي ستتفاوت في حدتها من دولة أفريقية إلى أخرى.
في الوقت ذاته، كشفت القمة عن وعي رؤساء وقادة دول أفريقيا المشاركة في القمة (49 دولة) بأهمية وصعوبة دورها المطلوب في إحداث تحول جذري في النظام العالمي. وانعكس هذا الوعي في استقبال الطروحات والعطاءات التي قدمتها روسيا خلال القمة، بقدر كبير من الموضوعية والبراغماتية معاً، من دون اندفاع غير مدروس ولا امتناع غير مبرر.
فإن كانت موسكو قد سعت من خلال القمة إلى حشد وتعبئة الدول الأفريقية للاصطفاف إلى جانبها في المواجهة المستمرة مع القوى الكبرى حول إدارة العالم، فإن القادة الأفارقة نجحوا في تجنب انتهاء القمة بنتائج في اتجاه واحد لصالح روسيا وحدها. فنجحت أفريقيا في دفع موسكو إلى تقديم إثباتات عملية لحسن النوايا تجاه أفريقيا، مثل جدولة الديون وتسوية التبادلات التجارية بالعملات المحلية.
البيان الختامي للقمة تضمن بنوداً تلبي مطالب روسيا بوضوح، خاصة فيما يتعلق منها بمستقبل العالم، إذ نص البيان على "إنشاء نظام عالمي متعدد الأقطاب أكثر عدلاً وتوازناً واستدامة".
وفي المقابل، أكد البيان الاستفادة الأفريقية المنتظرة، عندما أشار إلى أن ذلك النظام المأمول "سيتصدى بحزم لأي شكل من المواجهة الدولية في القارة الأفريقية". وهي صياغة دبلوماسية لما وصفه بوتين في كلمته للقمة بالعزم المشترك على "النضال ضد الاستعمار الجديد".
أهم ما في قمة روسيا - أفريقيا، أنها لم تقتصر على تبادل الكلمات أو الصياغة القوية لبنود الإعلان الختامي. فقد اتفق القادة على مأسسة وتأطير القمة كمظلة ثابتة وآلية منتظمة لإدارة العلاقات الروسية الأفريقية، حيث تم الاتفاق على عقدها دورياً كل ثلاث سنوات.
القمة الروسية الأفريقية محطة مهمة باتجاه تشكيل واقع عالمي مختلف، ربما ليس مناقضاً تماماً للحالي. لكن انعقاد القمة للمرة الثانية ومواقف الدول المشاركة فيها، يقدم مثالاً عملياً على أن مستقبل العالم سيكون مختلفاً. سواءً في أقطابه واللاعبين المؤثرين فيه أو في طبيعة قضاياه وملفاته، التي ستختلف بدورها حسب أولويات تلك الأقطاب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة