تتوالى التطورات الدراماتيكية بعد واقعة سقوط طائرة مؤسس فاغنر يفغيني بريغوجين نتيجة خلل تقني، أو اغتياله نتيجة عمل مدبر، والتوقع بمشاهد وسيناريوهات جديدة في الصراع الدائر بين قيادات فاغنر، والتي لن تقتصر على يفغيني بريغوجين.
وقد تمتد تلك التطورات إلى التعامل مع جنرالات المؤسسة العسكرية الروسية، والذين يرتبطون فعليا بمراكز القوة والتأثير الكبير في الجيش الروسي.
واللافت أن أغلب قيادات المؤسسة لديها تحفظات على ما تم منحه من مزايا مسبقة لقيادات فاغنر، والمهام الكبرى التي عملت عليها داخل روسيا، وخارجها في أفريقيا، وفي مناطق الصراعات لتأكيد المصالح العليا للدولة الروسية ، والتي أعلنها الرئيس الروسي بوتين، وركز فيها على ضرورة الحفاظ على مقدرات القوة الروسية في الفترة المقبلة، خاصة وأن الاستراتيجية الروسية التي أعلن الرئيس بوتين عن بنودها تدفع بمواجهة المخاطر، والتحديات التي تواجه روسيا في إطار مواجهة المخططات الكبرى التي تعمل عليها الولايات المتحدة، ودول ناتو، والتي تركز على دفع روسيا إلى حافة الهاوية، ولهذا فإن روسيا كدولة كبرى في حاجة إلى تأكيد ثوابت الحضور الاستراتيجي في العالم.
وفي هذا السياق سيستمر الصراع داخل المؤسسة العسكرية الروسية، والذي لن يحسم بسهولة لعدة اعتبارات أهمها أنه صراع شخصي بين وزير الدفاع الروسي، وبين مجموعة جنرالات فاغنر، وليس يفغيني بريغوجين فقط كما يتصور البعض، وسيؤدي إلى مزيد من التبعات في الفترة المقبلة بعد اختفاء بريغوجين، ما يشير إلى أن المواجهات ستستمر، خاصة وأن أغلب قادة المؤسسة العسكرية، وتحديدا مجموعة الصقور التي تعمل إلى جوار الرئيس بوتين لا يريدون أن يصعد دور جنرالات فاغنر على حسابهم في الفترة المقبلة، خاصة وأن هناك صراعا بين القادة على الجانبين منذ سنوات طويلة، وفي ظل تحريض دائم من قادة فاغنر للقادة الكبار في الجيش الروسي بضرورة التقاعد والعمل في فاغنر، وهو ما حاول أن يحسمه الرئيس بوتين، وفشل في مواجهته، خاصة وأن قيادات في فاغنر أعلنوا قبل حادثة بريغوجين أنهم سيطيحون بالرئيس بوتين نفسه ما يؤكد أن الصراع سيستمر، وسيكون له تبعاته الكبرى، وفي إطار مواجهات حقيقية تحتاج إلى حسم، وليس أنصاف حلول مثلما اتبع الرئيس بوتين في إطار حل الصراع وزحزحة الأزمة، وليس مواجهتها بالفعل خاصة وأن فاغنر ستواصل عملياتها في الخارج، ولا سيما في عدد من بلدان القارة الأفريقية، كمالي وأفريقيا الوسطى والسودان وليبيا على الأقل في المدى المتوسط.
وتكمن إشكالية المؤسسة العسكرية الروسية بالفعل في احتمال أن يطرح قادة المؤسسة العسكرية البديل عبر إنشاء شركة جديدة تضم جنرالات آخرين، وهو أمر صعب في ظل انتشار الشركة في عشرات المواقع الاستراتيجية ليس فقط في أفريقيا بل في أوكرانيا ومسارح متعددة، حيث اكتسبت فاغنر وجودا وتأثيرا بدليل أن قيادات فاغنر كادت أن تحسم المواجهة في باخموت، لولا القرارات الخاطئة التي عمل بها وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو، ومجموعة قيادات التشكيلات الفرعية في مناطق التماس الاستراتيجي، الأمر الذي أثر بالفعل على مسارات الحرب، وسيلقي ذلك بتبعاته على ما سيجري في مسرح عمليات أخرى، وفي إطار مواجهة مفتوحة خاصة مع نجاحات الجيش الأوكراني في العمل على تحقيق مكاسب عاجلة نتاج تغيير الأهداف التي يعمل عليها، بل وشن هجوم مضاد يمكن أن يكبد القوات الروسية الكثير من الخسائر كما جرى في الفترة الماضية.
ستظل قناعات قيادات فاغنر أنهم من يقودون العمليات في أوكرانيا، وفي مناطق النار مثل تواجدهم في غرب أفريقيا، ما يؤكد على أنهم المبادرون في المواجهة، وهو ما سيؤكد جدارتهم في تصدر المشهد الاستراتيجي في ظل ارتباك وتردد قيادات الجيش الروسي، خاصة وأن هؤلاء القادة – وفقا لرؤية جنرالات فاغنر – لا يملكون ناصية الموقف الاستراتيجي، وأنهم يبحثون عن مجد شخصي، ولا يدركون التطورات الاستراتيجية في العالم، وأن الأمر يتجاوز مواقعهم، ولعل هذا الأمر يفسر سر المواجهة الشخصية بين قيادات فاغنر، وبين قيادات وزارة الدفاع والأركان وقادة العمليات في الجيش الروسي، والذين يتبنون مساحات من المواجهة والتحدي للسلطة القائمة، كما فشل الرئيس بوتين في حسم الصراع الدائر بل أصبح بوتين نفسه في دائرة المواجهات خاصة مع تقييم قيادات فاغنر بأن الرئيس بوتين شيد دوائر تأثير ونفوذ كبيرة لعدد من الجنرالات العاملين إلى جواره، ومن خلال حرصه على الإبقاء على وزير الدفاع ورئيس الأركان في منصبيهما.
أيا كان السيناريو الذي ستمضي فيه المواجهات الراهنة بين القيادات العليا في الجيش الروسي وقيادات فاغنر، فإن الأمر سيرتبط فعليا بالقدرة على تفكيك دوائر التأثير والنفوذ الراهنة، وإعادة الأمور لنصابها، ومع غياب البديل الجاهز للرئيس بوتين، فإن الأمور ستمضي في إطارها مع نقل رسائل إلى قيادات فاغنر بأن التجاوز في المهام، ومحاولة اكتساب مركز عسكري، أو سياسي سيقابل بحزم وقوة، وأنه لا مكان بالفعل لأي قوة مناوئة، أو مواجهة يمكن أن تتحدى الدولة ومؤسساتها، أو تطرح نفسها بديلا في أي وقت، مما قد يؤدي إلى ارتدادات تطول الاستقرار العام للدولة الروسية، وفي ظل تربص الولايات المتحدة، ودول حلف ناتو التي تعمل في إطار من المواجهات التي تدفع روسيا إلى دائرة من الخيارات الضيقة، والمحددة مع التركيز على إنهاك القدرات الروسية دائما، وتنفيذ منظومة العقوبات الاقتصادية بالكامل.
وبالتالي فإن استمرار مهام فاغنر سيرتبط بمقاربة الرئيس بوتين، وجنرالات الجيش الروسي في الفترة المقبلة بعد اختفاء رأس فاغنر، الأمر الذي يشير إلى أن أي سيناريو سيكون مرتبطا بمسار العمليات العسكرية في الفترة المقبلة في أوكرانيا، وفي غرب أفريقيا، وقدرتها على الحسم، وذلك جنبا إلى جنب مع اتخاذ الرئيس بوتين لسلسلة قرارات متتالية لإعادة الأمور إلى نصابها، ومنها بدء تغييرات كاملة في قيادة الجيش الروسي، وأهمها مؤخرا تعيين قائد القوات الجوية الجنرال سيرغي سوروفيكين قائدا عاما في أوكرانيا، وذلك بعد إقالة قائدي المنطقتين الشرقية والغربية العسكريتين.
والمعنى أن هذه التعيينات تستهدف إعادة تمركز المهام والأولويات في الجيش الروسي، والمرتبط بالفعل بصعود دور جنرالات فاغنر التي ستعمل على إعادة تمركز دورها في الفترة المقبلة، وهو ما يضعه الرئيس بوتين في قمة أولوياته.
في المجمل، فإن الأوضاع في روسيا لن تستقر لاعتبارات متعلقة بما يجري من تصاعد التوتر العام سواء داخل المؤسسة العسكرية، أو خارجها، ومن ثم فإن اعتماد أي استراتيجية في الوقت الراهن ستكون مرتبطة بخيارات قد تبدو صفرية وليست توافقية من قبل الرئيس بوتين، ولحين إشعار آخر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة