ولنا في أحداث السنوات الأخيرة من عمر منطقتنا العربية والخليجية خير شاهد على ما نقول، كما أن لنا فيها خير عظة وعبرة.
جدل عقيم وسُفسطائي لا فائدة منه، هذا الذي انغمس فيه الكثير من المغردين والمتابعين والمعلقين في وسائط التواصل الاجتماعي، على خبر وفاة نجمة بوليوود الهندية الشهيرة «سرديفي كابور» غرقاً في حمام غرفتها بأحد فنادق دبي، وفقاً لما أظهره تقرير الطب الشرعي في بيان شرطة دبي.
سبب الجدل الذي انغمس فيه الكثيرون هو طلب الرحمة لها من قبل فئة من المعلقين على الخبر في وسائط التواصل الاجتماعي، حيث اعترض البعض على ذلك، باعتبارها غير مسلمة، خاصة بعد أن دخلت على الخط فنانة خليجية معروفة، أثارت تغريدة لها عن النجمة الهندية الراحلة ردود فعل غاضبة من قبل رواد مواقع التواصل الاجتماعي، كان بينهم عدد كبير من المثقفين، وجهوا لها رسائل استنكار معظمها يدور حول فكرة أن الرحمة ليست بيد البشر، قائلين إنها لله وحده، ولا يمكن لبشر أن يكون صاحب قرار فيها. وكانت الفنانة الخليجية قد كتبت في حسابها على تويتر «رحمها الله.. أستغفر الله»، في إشارة إلى أنه لا يجوز طلب الرحمة لها.
إثارة هذه النعرات، والدخول في جدل حول جواز الترحم أو عدمه على فنانة من ديانة معينة توفيت على أرض دولة الإمارات لا يخدم أهداف دولتنا ومساعيها إلى نشر مبدأ التسامح والتعايش بين أبناء مختلف الجاليات والديانات.
وكان من بين الذين ردوا على تغريدة الفنانة الخليجية الكاتب والروائي السعودي تركي الحمد، الذي قال: «إن رحمة الله وسعت كل شيء، من الحجر إلى الشجر، فكيف لا تجوز على البشر؟ كفانا تنطعاً لا يجلب لنا إلا بغضاء العالم».
لسنا بصدد البحث عن فتوى في هذا الموضوع، ولكننا نبحث عن سبب يدعونا إلى إثارة جدل مثل هذا، في توقيت ينظر فيه العالم إلى فئة كبيرة منا على أنها متطرفة متشددة، تمارس كل أشكال التفرقة الدينية والمذهبية والطائفية والعرقية، ونحن أبناء أمة واحدة، فكيف إذا عممنا هذا على أمم أخرى، ليس لنا مصلحة في معاداة شعوبها، خاصة إذا كانت المناسبة لا تستدعي ذلك، وإذا كانت شعوب هذه الأمم والأديان لم تقم بالإساءة إلينا، فتكون إثارة العداوة والبغضاء بيننا وبينهم غير مبررة ولا مطلوبة، لأننا نعيش في محيط من الأمم والأديان والأعراق تقتضي الحكمة أن ننأى بأنفسنا عن معاداتهم، ويقتضي العقل والمنطق أن نسعى إلى كسب ودهم وصداقتهم، وإقامة علاقات طيبة معهم، لأن طبيعة العصر تتطلب منا أن نقيم صداقات وتحالفات مع كل الأمم والشعوب، بعد أن ثبت بالتجربة أن وضع أوراقنا كلها في سلة واحدة مغامرة محفوفة بالمخاطر، وأن ربط أنفسنا بحليف واحد يعرضنا للخطر عندما يجد هذا الحليف مصلحته مع طرف آخر يشكل خطراً علينا.
ولنا في أحداث السنوات الأخيرة من عمر منطقتنا العربية والخليجية خير شاهد على ما نقول، كما أن لنا فيها خير عظة وعبرة.
لقد ضربت قيادة دولة الإمارات العربية المتحدة خلال السنوات الأخيرة خير مثال في بناء علاقات قوية مع دول شرق الكرة الأرضية، بعد أن رأت كيف تتحول دفة الدول الغربية الحليفة لنا ناحية أطراف أخرى في المنطقة، عندما تجد مصلحتها ومصلحة حليفتها الكبرى إسرائيل تميل لكفة تلك الأطراف، لذلك كانت زيارات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، إلى دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية والصين والهند، حيث استقبله قادة وشعوب تلك الدول بالود والترحاب، وفتحوا له قلوبهم وبلدانهم، ومدوا أياديهم لإقامة علاقات تحقق مصالح الطرفين السياسية والاقتصادية والثقافية، وتطرقوا إلى مجالات التعاون التي تعود على بلدانهم وبلدنا بالفائدة المشتركة.
وهذه هي قمة الحكمة في السياسة التي تبتعد عن مناطق الاختلاف بأشكالها كافة، وتقترب من مناطق الاتفاق التي تفوق كثيراً مناطق الاختلاف، خاصة عندما يتعلق الأمر بالدين الذي هو علاقة خاصة بين الإنسان وربه، تحددها عوامل كثيرة، منها ما هو متعلق بالعقل، ومنها ما هو متعلق بالروح والإرث التاريخي والاثني والثقافي والاجتماعي.
لقد بادرت دولة الإمارات العربية المتحدة إلى إصدار قانون يحظر الإساءة إلى الذات الإلهية أو الأديان أو الأنبياء أو الرسل أو الكتب السماوية أو دور العبادة، أو التمييز بين الأفراد أو الجماعات على أساس الدين أو العقيدة أو المذهب أو المِلة أو الطائفة أو العرق أو اللون أو الأصل الإثني، ويجرّم كل قول أو عمل من شأنه إثارة الفتنة أو النعرات أو التمييز بين الأفراد أو الجماعات من خلال نشره على شبكة المعلومات، أو شبكات الاتصالات أو المواقع الإلكترونية أو المواد الصناعية أو وسائل تقنية المعلومات أو أي وسيلة من الوسائل المقروءة أو المسموعة أو المرئية، وذلك بمختلف طرق التعبير كالقول أو الكتابة أو الرسم.
وحين تفعل دولة الإمارات هذا فهي إنما تهدف إلى ترسيخ مبدأ التسامح الذي يُعدّ ركيزة من ركائز هذا الوطن الذي قام على المحبة والتآلف بين أفراده وجميع المقيمين على أرضه وخارجها.
لذلك فإن إثارة هذه النعرات، والدخول في جدل حول جواز الترحم أو عدمه على فنانة من ديانة معينة توفيت على أرض دولة الإمارات لا يخدم أهداف دولتنا ومساعيها إلى نشر مبدأ التسامح والتعايش بين أبناء مختلف الجاليات والديانات، وربما كان تطبيق قانون مكافحة التمييز ونبذ الكراهية وازدراء الأديان على من يفعل هذا، هو الوسيلة الأمثل لوقف مثل هذه المهاترات، كي لا نغرق جميعاً في جدل سُفسطائي عقيم مثل هذا، لن نجني منه سوى الإساءة إلى شعب صديق، واستجلاب بغضاء العالم التي نحن لسنا في حاجة إلى المزيد منها.
نقلا عن "البيان"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة