"باجي" تونس.. رحيل حارس الثورة والجمهورية
"لكل شيء وقته" كان تعليقا للسبسي حول إمكانية ترشحه للرئاسة في الانتخابات المقبلة، وكأنه استشراف للمستقبل.
رحل الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي، اليوم الخميس، في مرحلة عصيبة وأجواء من الاحتقان تخيم على المناخ السياسي بالبلاد مع قرب الاستعدادات للانتخابات التشريعية والرئاسية.
"لكل شيء وقته" كان تعليقا للسبسي، في كلمة له، أبريل/نيسان الماضي، حول إمكانية ترشحه للرئاسة للانتخابات المقبلة، مؤكدا أن تونس -التي تمر بفترة أصعب مما كان يتخيل- تستحق التغيير، ولا بد من منح الفرصة للشباب.
وعاود السبسي تأكيده على أنه "غير معني بها (الرئاسة)" وكأنه استشراف للمستقبل من الرجل الذي أسكن جميع سيناريوهات المشهد السياسي التونسي وعايش مختلف محطاته، إلى درجة أن القسم الأكبر من السيرة الذاتية للسبسي تتماهى مع جزء من التاريخ الحديث للبلاد.
هو شخصية مخضرمة وصاحب مسيرة مهنية طويلة صقلها الزمن، عايش عهدي الرئيسين الحبيب بورقيبة (1957-1987) وزين العابدين بن علي (1987-2011)، وترأس الحكومة الانتقالية عقب الاحتجاجات التي أطاحت بالأخير، قبل أن يصل إلى قصر قرطاج رئيسا للجمهورية في 2014.
السبسي تشكيلة فريدة من نوعها، تتقاطع عندها اعتباريته الذاتية بالحزبية بالوطنية، فتتشكل فسيفساء ثرية بالأحداث والمحطات الفارقة في تاريخ تونس.
تستعرض "العين الإخبارية" أبرز ملامح هذا السياسي المخضرم الذي تجمع العائلات السياسية في تونس على أنه صمام الأمان للبلاد في أكثر مراحلها تقلبا، وسد منيع بوجه الرجعية التي حاول تنظيم الإخوان الإرهابي الترويج لها بالبلاد منذ 2011.
ولد قايد السبسي في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 1926 بضاحية سيدي بوسعيد بالعاصمة التونسية، اختار دراسة المحاماة، ويقول عنه المقربون منه إنه كان مولعا بالقانون، مقبلا على دراسته، شغوفا بالتفاصيل ومستمعا جيدا، حتى إن أصدقاءه كانوا يلجأون إليه في المدرسة والجامعة لحل مشاكلهم.
وتخرج السبسي عام 1950 في كلية الحقوق بالعاصمة الفرنسية باريس، وبعد عامين عاد إلى تونس والتحق بمكتب شهير للمحاماة.
وغداة الاستقلال، وتحديدا في 28 أبريل/نيسان 1956، دعاه الحبيب بورقيبة الذي كان حينها وزيرا أولا إلى ديوانه وكلفه بمتابعة ملف الشؤون الاجتماعية، لتكون تلك بداية المناصب السياسية في مسيرته.
وفي عام 1963 عُين رئيسا لإدارة الأمن التونسي خلفا لـ"إدريس قيقة"، الذي تمت إقالته حينها على خلفية محاولة انقلابية كشف عنها في ديسمبر/كانون الأول 1962.
وبعد 3 سنوات أي في 1965 تقلد السبسي مهام كاتب دولة (برتبة وزير) للداخلية بعد وفاة الطيب المهيري، ومنها إلى وزارة الدفاع التي عُين على رأسها في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1969.
وبقي في منصبه الأخير، حتى تعيينه سفيرا لبلاده في باريس، في يونيو/حزيران 1970.
**المسار السياسي
ولعه بالسياسة برز منذ شبابه؛ حيث انخرط في الحزب الدستوري الجديد، وهو في الـ15 من عمره، متأثرا بمحيطه العائلي الذي كان مقربا جدا من حكام تونس في العهد العثماني أو "البايات" نسبة إلى اللقب الذي كان يطلق على الحاكم حينها.
وبدأت تجربته السياسية تتراكم، فجمّد نشاطه في الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم في 1971 على خلفية تأييده لإصلاح النظام السياسي، ثم انسحب منه 1974 لينضم 4 سنوات بعد ذلك إلى حركة "الديمقراطيين الاشتراكيين" بقيادة أحمد المستيري.
كان مسكونا بثنائية الإصلاح والانفتاح الديمقراطي، مولعا بالتغيير، مفعما بحماس جعله يتقلد أكثر من مهمة؛ فتولى بالتزامن مع نشاطه السياسي إدارة مجلة "ديموكراسي" المعارضة.
أما عودته إلى الحكومة فكانت أواخر 1980، إثر تعيينه وزيرا معتمدا لدى رئيس الحكومة حينها محمد مزالي، والذي وجد فيه السبسي الرجل الميال إلى الانفتاح السياسي.
وفي 1981، تقلد مهام وزارة الخارجية، ولعب في تلك الأثناء دورا يشهد له التاريخ، في صدور قرار دولي أدان غارة إسرائيلية على مقر منظمة التحرير الفلسطينية بإحدى ضواحي العاصمة تونس.
من الحكومة والمناصب الوزارية، انتقل السبسي إلى القبة التشريعية، حيث انتخب عام 1989، أي بعد الإطاحة ببورقيبة، عضوا في مجلس النواب (البرلمان)، ثم تولى رئاسته بين 1990 و1991.
**ما بعد 2011
بنهاية مدته النيابية عاد إلى عشقه القديم المحاماة، وظل يمارسها حتى احتجاجات 2011، وفي خضم الفوضى السائدة خلال تلك الفترة برز السبسي كصمام أمان بوجه سقوط مؤسسات الدولة والانزلاق لأزمة حادة.
وفي الوقت الذي اعتقد فيه الجميع أن الرجل اعتزل السياسة للأبد برز على الواجهة من جديد، معلنا ولادة حزب "نداء تونس" الذي لمّ به شمل العائلة الدستورية.
وفي ضربة مفاجئة للإخوان، تصدر الحزب الوليد نتائج أول انتخابات تشريعية تفضي إلى برلمان دائم بالبلاد، جرت في أكتوبر/تشرين الأول 2014، وفاز السبسي بالانتخابات الرئاسية في خطوة أكدت أن الشعب سئم من الفوضى والاغتيالات التي اجتاحت البلاد في عهد الإخوان.
السبسي الذي يعد الخصم الأول للمتطرفين في تونس تحالف حزبه مع حركة النهضة الإخوانية خلال حكومتي الحبيب الصيد (2016-2015) ويوسف الشاهد التي انطلقت في شهر سبتمبر/أيلول 2016، لأسباب قال إنها تتعلق بخلق استقرار نسبي للبلاد.
إلا أن الرئيس المخضرم لم يسلم من لعنة سرطان الإخوان السياسي الذي يلتهم من يتحالف معه؛ فمنذ 2015 يعيش حزب نداء تونس أزمة سياسية وحركة انشقاقات تعمقت منذ الربيع الماضي قبل أن يعلن في سبتمبر/أيلول الماضي قطيعة نهائية معهم، في وقت تنتظر فيه البلاد انتخابات برلمانية ورئاسية أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/ تشرين الثاني المقبلين.
وجاءت الأزمة الصحية التي ألمت بالرئيس التونسي نهاية الشهر الماضي لتفضح نوايا النهضة الإخوانية وكونها تنتظر فرصة للقفز على صدارة المشهد بعد ترويج شائعات عن عجزه ووفاته، ما أثار قلقا لدى التونسيين من صعود التنظيم الإرهابي حال شغور منصب الرئاسة، وحول أحقية من يتولى خلافته.
ووفق الدستور التونسي، فإنه في حال وفاة الرئيس أو العجز التام تجتمع المحكمة الدستورية فورا، وتتولى إقرار الشغور النهائي، وتقوم بإبلاغ رئيس مجلس الشعب بذلك، والأخير يتولى فورا مهام الرئيس مؤقتا لأجل أدناه 45 يوما وأقصاه 90 يوما.
واليوم، أعلنت رئاسة الجمهورية التونسية وفاة السبسي عن عمر يناهز 93 عاما بعد ساعات من الإعلان عن نقله للمستشفى جراء وعكة صحية.