المسافة التي تفصل بين لبنان ومشروع "الصوملة" تتقلص الآن.
يعرف أهل الحكم في لبنان أن البلاد سائرة في طريق الانهيار. إلا أن ذلك أهون عليهم من تراخي قبضتهم على السلطة.
الرئيس ميشال عون كان هو الذي قال إن "البلاد سائرة إلى جنهم" إذا لم يتم تشكيل حكومة إنقاذ. وبعد مرور تسعة أشهر اتضح أن جهنم لم تكن مجرد وعيد، وإنما موعد. وها هو قد جاء.
لا تهم السجالات حول مَنْ يتحمل المسؤولية في الفشل. ولكن هناك الكثير من الدلائل التي تشير إلى أن الفشل كان هو المطلوب.
حكومة الإنقاذ التي سعى إليها مصطفى أديب وتاليا سعد الحريري، كانت تقوم وفقا للمبادرة الفرنسية، على مبدأين اثنين: الأول، أن تكون حكومة تكنوقراط مستقلين "عن سلطة ونفوذ الأحزاب". والثاني، أن تكون حكومة إصلاحات تكافح الفساد.
ولقد ظلت البلاد تدور حول وهم بلوغ هذين الشرطين لكي تحصل على حزمة إنقاذ من مصادر التمويل الدولية.
هذه المصادر ما عاد بوسعها أن تُلقي المال في حفرة نار الفساد التي يمكنها أن تلتهم عشرات المليارات وتظل تطلب المزيد.
ولكن انظر في هذين المبدأين من جديد، وستعرف أنهما آخر ما يمكن أن يلائم مصالح الذين يهيمنون على مقدرات البلاد. إذ لا هم مستعدون لإرخاء قبضتهم على السلطة، ولا هم مستعدون للتخلي عن "اقتصاد الفساد" بعد أن أصبح اقتصادا موازيا ينافس ويتجاوز اقتصاد الدولة، رغم أنه يعيش عليها.
البحث عن حكومة إنقاذ كان مجرد وهم. والقبول المعلن بالمبادرة الفرنسية كان مجرد عمل من أعمال الخداع، قصدَ تزجية الوقت.
انتهى الأمر الآن، والبلاد بلا حكومة، وبلا بدائل، وبلا خيارات غير انتظار الوصول إلى قاع جهنم. وهذا هو أول الطريق إلى "الصوملة".
الملايين من اللبنانيين الذين لا يجدون خبزا أو طعاما أو دواءً يعرفون أنهم بلغوا ذلك القاع. والأزمة يمكن أن تظل مفتوحة إلى أمد غير محدود، ليعيشوا على المعونات الدولية، كما هو الحال في بلدان ساد فيها الانهيار التام. ولكن لا بد من ملاحظة أمرين مهمين.
الأول هو أن دولة الاقتصاد الموازي التي يقودها "حزب الله"، تجد سبيلا لكي تطعم "شعبها" الخاص، من منهوبات ما تم الحصول عليه من فرص وامتيازات. الأمر الذي يوفر لنفوذه حصانة طائفية، لا تأبه بما يعانيه باقي اللبنانيين.
والثاني هو أن سلطة الفساد أقوى في الواقع من سلطة المؤسسات، بل إنها هي السلطة العليا، وهي المرجعية التي لا تعلوها أي مرجعية قانونية أو دستورية أو سياسية أخرى. والأمر يشبه مافيا تعلو فوق الجميع، و"الأب الروحي" فيها معروف. وهذه المافيا يمكنها أن تقول أي شيء، إلا أنها تفعل ما تريد.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون انطلق في سعيه لإنقاذ لبنان، من نيات طيبة، ومن أثر بعض الارتباطات التاريخية والثقافية. إلا أنه لم يلاحظ أن تلك النيات تصطدم، رأسا برأس، مع مصالح تلك المافيا وتهدد نفوذها.
لقد أسمعتْه ما يريد عندما جاء ليتفقد أحوال لبنان مرتين، إلا أنها عطلت مبادرته وفعلت ما تريد.
انهيار بلد، كان يُنظر إليه على أنه "سويسرا الشرق"، ليس مما يعني شيئا بالنسبة لـ"حزب الله".
تلك الصورة غير مطلوبة، وغير مرغوبة أصلا من ناحية المعايير التي يريد فرع الحرس الثوري في لبنان أن يفرضها على البلاد.
والانهيار نفسه لا يعنيه في شيء أيضا. إيران نفسها بلد منهار. ولكن سلطته لا تزال تمسك البلاد بقبضة من حديد ونار. وهو ما يمكن أن يتكرر في لبنان.
إيران، مثلما حوّلت العراق إلى مصدر من مصادر النهب عن طريق مليشياتها هناك، فإنها تريد للبنان أن يؤدي الدور نفسه. والفساد في الحالتين هو الاقتصاد المطلوب.
فبأي معنى كان يمكن القبول بحزمة إنقاذ دولية تتحول إلى عائق أمام "اقتصاد الفساد"؟ وبأي معنى كان يمكن القبول بمبادرة فرنسية تُضعف قبضة "حزب الله" على السلطة، بحكومة تكنوقراط؟
وهناك الآن مَنْ يعوّل على انتخابات برلمانية جديدة، موعدها الرسمي في مايو المقبل، لعلها تغيّر بعض موازين القوى. ولكن من قال إنها ستجري من الأساس؟
المجلس النيابي الذي انتخب في عام 2009، مدَّد لنفسه ثلاث مرات "بسبب الأوضاع الأمنية"، حتى وصلنا إلى انتخابات عام 2018.
أوضاع أمنية متدهورة جديدة يمكنها أن تكرر الشيء نفسه إلى ما لا يعلم أحد. ومع أزمة اقتصادية من قاع جهنم، فإن "الصوملة"، هي المسار. تلك هي إرادة رأس المافيا الآخر في إيران. وفي الواقع، فإن كل الخاضعين لنفوذه يتصوملون.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة