مَنْ يحكم غزة؟ إنه سؤال عجيب لا يعرف الإسرائيليون جوابه، ولا الأمريكيون، ولا غيرهم.
على الرغم من ذلك، فهناك قناعة عامة بين كل المنشغلين بالبحث عن إجابة لهذا السؤال هي أن فلسطينيين "آخرين"، هم الذين يجب أن يحكموا غزة.
تقول: طيب، ثم ماذا بعد؟
لعله سؤال أعجب، لأن المشكلة تكمن في ذلك الـ"ما بعد" نفسه.
الفلسطينيون، فصيلان رئيسيان حيال قضايا الحرب والسلام. الأول، ينظر إلى الأمور من زاوية الواقع.
والثاني ينظر إليها من زاوية المعتقد والأمل. المفارقة غير الخفية، هي أن الفريقين لا ينكر أحدهما على الآخر واقعه أو معتقده. ولكل منهما تبريرات، وهما يتصارعان حولها، ولكنهما يتصارعان مع إسرائيل بشأنها أيضا، لأن كلا الطرفين لم "يقبض" شيئاً، لا من واقعه ولا من معتقده.
كائنا مَنْ كان الذي سوف يحكم في غزة، فإنه فلسطيني في النهاية. أكثر الفلسطينيين قبولاً بمتطلبات السلام، يأخذ بأحد طريقين: الأول، يستند إلى "حل الدولتين"، بما يعني إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967، بالقليل أو الكثير من "تبادل الأراضي"، وبمناورة أو أخرى، تسمح بأن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية.
والثاني، يأخذ بحل "الدولة الديمقراطية الواحدة"، حيث يصبح الجميع مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات تجاه دولتهم.
لن تعثر على فلسطيني واحد يمكنه أن يؤسس شرعية لسلطته، على خيار ثالث، غير مطروح أصلا.
اليمين الإسرائيلي الحاكم، يرفض الحلّين معاً. وهو لم يُعطِ لدعاة السلام الفلسطينيين شيئاً، وظل ينتهك حقوقهم، ويستولي على المزيد من أراضيهم، في سياق "معتقد" مضاد هو الذي يجري إملاؤه بالقوة والقهر.
الطرف الفلسطيني غير المسالم يتخذ من ذلك تأكيداً ومبرراً لقناعاته. قائلاً: إذا كان السلام لم يسفر عن سلام أصلاً، فما الذي يُوجب الاستمرار فيه؟
سؤالٌ قد يلقى مماطلة من الفلسطينيين الذين من المفترض أن يجيبوا عنه، ولكنهم سرعان ما يعترفون بأن مشكلتهم لا تكمن فيما يعتقدون هم به، وإنما فيما يعتقد الإسرائيليون أنهم قادرون على فرضه.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، اقترح حلاً ثالثاً، هو الاستسلام التام والشامل. قال في مقال لصحيفة "وول ستريت جورنال"، نشر يوم 25 ديسمبر/كانون الأول الماضي: "تمت عملية استئصال التطرف بنجاح في ألمانيا واليابان بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. واليوم، أصبح البلدان حليفين عظيمين للولايات المتحدة ويعملان على تعزيز السلام والاستقرار والازدهار في أوروبا وآسيا".
اليابان وألمانيا استسلمتا بالفعل. ولكن الولايات المتحدة لم تقم بإنشاء مستوطنات في دريسدن ولا في ضواحي طوكيو، ولا أنكرت على البلدين حقهما في السيادة على أراضيهما، ولم تمارس قوات الاحتلال انتهاكات يومية، أو أعمال انتقام بعد أن وضعت الحرب أوزارها.
ولكنها قادت الجهود من أجل "تغيير ثقافي" في هذين البلدين، وثبت أنه تغيير نافع لكليهما، حتى أصبحا قوتين اقتصاديتين كبيرتين في العالم، ويتمتعان بنفوذ دولي مهم، بل ونفوذ على الولايات المتحدة نفسها أيضاً. ومثلما كان هناك "مشروع مارشال" لإعادة بناء ألمانيا، فقد حصلت اليابان على مساعدات قادت ما صار يُعرف بـ"المعجزة الاقتصادية".
لو قرر الفلسطينيون اليوم الاستسلام، فعلى ماذا سوف يحصلون؟
استشهد نتنياهو بمثالي اليابان وألمانيا، وهو يعرف تماماً أنه، وفريقه اليميني الحاكم، لا يستطيع المضي بهذين المثالين. لا يجرؤ حتى على التصريح، بغير اللغة الإنجليزية، عن شيء مماثل داخل إسرائيل. دع عنك أن يضع إطاراً عملياً له.
هناك أسس للسلام، يتمسك بها الفلسطينيون الراغبون في السلام، وهي واضحة وموثقة ومنطقية بما يكفي لرسم خارطة طريق لا تعترضها عثرات، حتى إن مبدأ تقديم "تنازلات" على أساس متبادل، أمر يمكن أن يجد مساحة واسعة من القبول.
إسرائيل الحالية هي التي لا تريد المضي في هذا الطريق، حتى الاستسلام لا يكفي بالنسبة للمعتقد اليميني، الذي دفع نتنياهو إلى اعتبار الحرب ضد غزة حرباً "بين أبناء النور وأبناء الظلام"، أما التنفيذ العملي فقد أخذ من "سفر صموئيل"، الفصل 15 كل ما كان يحتاجه، حيث تقول "الآية 3": "والآن اذهب واضرب العماليق وحرموا كل ما لهم ولا تعفُ عنهم. بل اقتلوا على السواء الرجل والمرأة، الطفل والرضيع، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً".
وهذا ما يحصل الآن بالضبط، حتى بات قطاع غزة "غير صالح للسكن.. بات مكاناً للموت واليأس"، حسب مارتن غريفيث منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة.
مَنْ يحكم غزة؟ سؤال لا إجابة عنه. لأن كل مَنْ قد يحكمها لن يحصل على شيء أكثر مما حصلت عليه الضفة الغربية من جرائم قتل وانتهاكات يومية وتمييز عنصري ومستوطنات. ولأن كل مَنْ يحكم غزة سيظل يطالب بأحد حلّين، لا يريد "أبناء النور" أيّا منهما، حتى الاستسلام نفسه لا ينفع.
السؤال الصحيح هو: مَنْ يحكم إسرائيل بعد الحرب في غزة؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة