لم يعد الإعلام اليوم مجرد وسيلة لنقل الأحداث والمواقف، بل أصبح ساحة تنافس بين الدول لتشكيل الوعي وصناعة الصورة الذهنية بأدوات حديثة .
وفي هذا المشهد يبرز السرد الاستراتيجي كأحد أهم أدوات القوة الناعمة الحديثة، إذ يمثل الإطار الشامل الذي يربط بين الرسائل الوطنية والرؤية القيادية والقيم الإنسانية في قصة متكاملة تروى للعالم بلغة يفهمها العقل وتلامس القلب وتستخدم ادوات العصر .
السرد الاستراتيجي هو أكثر من مجرد خطاب أو حملة؛ إنه منهج تفكير واتصال طويل المدى، يهدف إلى توحيد الرسائل الإعلامية، وحماية السمعة الوطنية، وتعزيز الثقة بين الدولة وجمهورها في الداخل والخارج. تقوم فكرته على بناء “قصة كبرى” تعبّر عن هوية الدولة وتبرز إنجازاتها وتوجهاتها، فيتحول الإعلام إلى قوة ناعمة فاعلة تخدم المصالح الوطنية.
التحولات القادمة في عالم السرد الإعلامي تُدار اليوم عبر أدوات ذكاء اصطناعي متقدمة قادرة على تحليل اتجاهات الرأي العام لحظة بلحظة، وقياس الانطباعات والمشاعر تجاه أي قضية أو دولة. فأنظمة مثل Meltwater وCision وReptrak باتت تُمكّن صانع القرار من فهم الصورة الذهنية بدقة، بينما تسمح أدوات مثل Runway ML وSynthesia بإنتاج قصص مرئية تفاعلية بلغات متعددة تخاطب الثقافات المختلفة.
وفي ظل هذا التطور التقني، تظهر أهمية الأنشطة الاتصالية المواكِبة مثل إقامة المنتديات والمؤتمرات ذات البعد الدولي، وتدريب المتحدثين الرسميين والغير رسميين والمؤثرين على تبني السرد المناسب لأوطانهم ، وتأسيس مراكز اتصال استراتيجية او مكاتب اعلامية تعمل على تنسيق الرسائل بين المؤسسات. كما يُتوقع أن يتعاظم دور المختبرات الإعلامية الذكية التي تجمع بين التحليل البياني والإبداع السردي، لتصميم حملات استباقية تحمي الصورة الوطنية من التشويه وتدعم حضورها الإيجابي في العالم.
إن المستقبل الإعلامي يُكتب اليوم بلغة السرد الاستراتيجي؛ لغة تزاوج بين التكنولوجيا والقيم، بين الذكاء الاصطناعي والإنسانية، لتجعل من الرسالة الإعلامية جسرًا دائمًا بين القيادات والشعوب في العالم. فالدول التي تتقن رواية قصتها بذكاء هي التي ستقود الوعي وتكسب ثقة العالم في زمن تتقاطع فيه الحقيقة مع الضجيج.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة