في عالم السياسة، ما يُقال ليس هو ما يُفعل، وما يُفعل لا يُقال، ولا صديق دائم ولا عدو دائم، فالعلاقات بين الدول تدار بميزان دقيق من المواقف، حيث لا يقاس النفوذ بالكلمات، بل بالقدرة على صناعة التوازن في لحظات الاضطراب، وعلى تغيير الواقع حين تخنقه الأزمات.
ومن هذا الفهم العميق لطبيعة السياسة، أدت دولة الإمارات دورا محوريا هادئا ومؤثرا في مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، عملت خلاله بصمت وحنكة على فتح مسارات التهدئة وتفعيل القنوات الدبلوماسية، حتى إذا وضعت الحرب في غزة أوزارها، تجلى للعالم حجم الجهد الذي بُذل في الخفاء دعما للقضية الفلسطينية وسعيا إلى وقف نزيف الدم، في تجسيد لرؤية راسخة ترى في الاستقرار الإقليمي السبيل الأوحد إلى السلام والازدهار.
ولم يكن هذا الدور وليد هذه الأزمة، بل امتداد لمسار استراتيجي متدرج بدأ يترسخ منذ توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية، تلك التي شكلت نقطة تحول في العلاقات الإقليمية وفتحت أمام الإمارات أفقا جديدا في إدارة القضايا المعقدة وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
لذلك لا يمكن قراءة دور الإمارات في هذه القضية بمعزل عن الاتفاقيات الإبراهيمية التي من خلالها تمت إعادة تشكيل الجسور السياسية بين دول عربية وإسرائيل، ما أتاح حوارا مباشرا حول قضايا شائكة وفي مقدمتها قطاع غزة ومخططات إسرائيل لعمليات الضم في الضفة الغربية ومهد لدور إماراتي متوازن يجمع بين المبادرة السياسية والمناورة الدبلوماسية.
وحين وضعت تلك الأسس مسارا جديدا للتواصل الإقليمي، وجدت دولة الإمارات نفسها في موقع يمكنها من التحرك بفاعلية عند اشتداد الأزمات، وهو ما تجلى بوضوح مع تفاقم الوضع في غزة إنسانيا وعسكريا حيث تحركت الإمارات – جهرا وخفاء- لاحتواء التصعيد ومنع تمدد الصراع، فمارست عبر قنواتها الدبلوماسية اتصالات مكثفة لوقف إطلاق النار، وبذلت جهودا إنسانية غير مسبوقة لتخفيف معاناة المدنيين، إيمانا بدورها في الحفاظ على سلام المنطقة واستقرارها.
على الصعيد العلني، ترجمت دولة الإمارات هذه الاستراتيجية إلى مواقف معلنة، مؤكدة ثباتها تجاه القضية الفلسطينية، فلم تكتفِ بالبيانات الرسمية، بل شاركت بفاعلية في المنابر الدولية لتأكيد حق الفلسطينيين في العيش بكرامة، ودعت إلى وقف شامل لإطلاق النار وإعادة الإعمار وفتح ممرات المساعدات، كما قادت مبادرات نوعية لدعم غزة ماليا ولوجستيا، مستخدمة أدواتها السياسية للضغط من أجل التهدئة وضمان وصول الإغاثة دون عراقيل.
وكان بيان وزارة الخارجية الإماراتية المرحب باتفاق وقف إطلاق النار أكثر من مجرد تهنئة دبلوماسية، إذ حمل رسالة واضحة مفادها أن الاستقرار الإقليمي لا يتحقق إلا بإنهاء الأزمة الإنسانية، وأن الحلول الدبلوماسية هي الطريق الصحيحة لإعادة البناء وإدارة القطاع.
ومن هنا جاء التنسيق الوثيق الذي أدارته دولة الإمارات مع شركائها الإقليميين والدوليين للتهدئة ومنع انفجار أوسع في المنطقة. ففي مايو/أيار 2025، وبينما كانت الحرب في أوجها، نجحت دولة الإمارات في التوصل إلى تفاهم مباشر مع الحكومة الإسرائيلية لإدخال مساعدات عاجلة إلى غزة، كما استخدمت عضويتها غير الدائمة في مجلس الأمن خلال عامي 2023–2024 لإعادة القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام الدولي، بعد سنوات من الجمود.
ولعبت الإمارات دورا محوريا في تمرير القرار 2720 في مجلس الأمن، الذي دعا إلى فتح جميع معابر غزة وتسهيل دخول المساعدات دون قيود، في وقت أكدت فيه دولة الإمارات مرارا رفضها أي ترتيبات تؤدي إلى التهجير القسري للفلسطينيين أو ضم الأراضي، وهو موقف عبرت عنه في اتصالاتها مع الولايات المتحدة ودول أوروبية كبرى.
لكن المعيار الحقيقي لتأثير دولة الإمارات لم يكن في البيانات، بل في الأثر الميداني، فمنذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحولت الإمارات إلى أكبر مانح إنساني منفرد لقطاع غزة، ووفق بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، شكلت المساعدات الإماراتية نحو 44% من إجمالي المساعدات الدولية المقدمة للقطاع.
وخلال عملية "الفارس الشهم 3"، وهي أضخم حملة إنسانية في تاريخ الدولة، أرسلت الإمارات 90 ألف طن من المساعدات عبر 18 باخرة وأكثر من 8 آلاف شاحنة و697 رحلة جوية، بتكلفة إجمالية بلغت 1.8 مليار دولار. كما نفذت 81 عملية إنزال جوي ضمن مبادرة "طيور الخير"، أسقطت خلالها أكثر من 4 آلاف طن من المواد الإغاثية مباشرة إلى المناطق المنكوبة.
وفي الجانب الطبي، أنشأت الإمارات مستشفى ميدانيا في غزة بسعة 200 سرير، وآخر عائما في مدينة العريش المصرية لاستقبال الجرحى والمصابين، إضافة إلى 6 محطات لتحلية المياه و21 مخبزا متنقلا لتأمين الغذاء للمواطنين المتضررين.
ولم تتوقف الجهود عند حدود الإغاثة المباشرة، إذ أطلقت الإمارات مع قبرص مبادرة مشتركة عبر صندوق "أمالثيا" لإيصال المساعدات إلى غزة، حيث أرسلت نيقوسيا 1200 طن من المساعدات عبر ميناء أشدود بدعم لوجستي وتمويلي إماراتي، في خطوة تعكس كيف توظف الإمارات قوتها الإنسانية كجسر دبلوماسي.
أما خلف الكواليس، فقد مارست دولة الإمارات دورا دبلوماسيا هادئا وفعالا، مستفيدة من علاقاتها المتوازنة مع واشنطن والعواصم الإقليمية لتقريب وجهات النظر وتليين المواقف المتشددة ومنع الانزلاق نحو تهجير جماعي أو ضم أحادي، فيما يمكن أن نطلق عليه "الوساطة الناعمة" التي تجمع بين الحكمة السياسية والفاعلية العملية، والتي باتت أحد أهم سمات الدبلوماسية الإماراتية.
وقد حظيت هذه الجهود بتقدير دولي واسع، إذ أشادت قوى كبرى بالدور الإماراتي في عملية السلام، وعبر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال قمة شرم الشيخ عن امتنانه لدولة الإمارات، واصفا الشيخ محمد بن زايد آل نهيان بأنه "قائد عظيم نقدره بشدة"، في إشارة إلى الدور الريادي الذي اضطلع به رئيس دولة الإمارات في دعم مسار السلام.
ومن قلب غزة، حمل الأهالي أعلام دولة الإمارات خلال عودتهم إلى منازلهم بعد عامين من النزوح، في مشهد مؤثر عبر عن امتنان شعبي صادق تجاه دولة لم تبخل يوما في مد يد العون.
إن إنجاز وقف إطلاق النار في غزة وبدء دخول المساعدات الإنسانية يمثل خطوة كبرى نحو إنهاء المأساة، لكنه يظل معلقا ما لم يترجم إلى ضمانات سياسية تقي من تكرار الصراع، فالتحدي الحقيقي اليوم لا يكمن في إسكات صوت المدافع فحسب، بل في تحويل لحظة التهدئة إلى بداية لمسار دائم من السلام العادل والمستدام، وفي هذا المسار، تبقى دولة الإمارات الرقم الصعب، بما تمتلكه من رؤية إنسانية، ونفوذ سياسي، وإيمان عميق بأنها دوما "صانعة السلام".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة