مغتربون أفارقة في السودان.. "رحلة جمر" بين الرعب والموت
اختبروا المعنى الحقيقي للسير على الجمر، فلا هم أحياء قادرون على بلوغ بر الأمان ولا هم أموات حسموا حصتهم من الرعب والألم.
مغتربون أفارقة كانوا حتى قبل 15 أبريل/نيسان الماضي يعيشون في العاصمة السودانية الخرطوم، يزاولون أعمالهم ويعيشون يومياتهم الرتيبة كغيرهم من سكان المعمورة.
لكن رتابة أيامهم التي كانت أقصى محنهم تحولت إلى أمنية مع اندلاع الاشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع، المنعطف الذي قلب حياتهم رأسا على عقب، وهم الذين اعتقدوا حتى الأيام الأخيرة أن ما يحدث ظرفا مؤقتا.
لكن تواترت الأيام، ونفدت مخزوناتهم من الطعام، لتضطرهم غريزة البقاء إلى الفرار بحثا عن أمان في مواطنهم، لكن حتى رحلة النجاة كلفتهم الكثير.
على الجمر
طالب القانون النيجيري عمر يوسف يارو كان مسترخيا في شقته حين سمع لأول مرة دوي الطلقات النارية في الشهر الماضي بالحي الذي يقطنه في الخرطوم.
وبحسب وكالة رويترز، مكث يارو، على مدى الأيام التسعة التالية وحيدا ليتجنب الاشتباكات بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع شبه العسكرية على أمل أن يتوقف القتال.
وفي ظل تعطل الإنترنت لديه واقتراب نفاد مخزونه من الطعام فتح يارو بيانات هاتفه المحمول يوم 24 أبريل/نيسان الماضي ووقعت عيناه على جملة أعادته إلى الحياة على تطبيق تليغرام، وهي "ستجلي نيجيريا رعاياها" عند فجر اليوم التالي من حرم جامعة أفريقيا العالمية في العاصمة التي مزقتها الحرب.
سارع يارو بحزم حقيبتين وتوجه إلى أقرب محطة حافلات، لكن لم تصل أي وسيلة مواصلات.
وقال يارو (24 عاما): "ظهرت قوات بأسلحتها فجأة من العدم، صوبوا سلاحهم نحوي، ربما لإخافتي، وسألوني عن وجهتي في هذا الوقت من الليل بالحقيبتين".
وكانت تلك بداية رحلة طويلة ومروعة إلى بر الأمان، حيث كان على هؤلاء المغتربين الأفارقة مجابهة مصيرهم بأنفسهم والحصول على منفذ للنجاة أو الموت هناك.
تكدس الآلاف في الحافلات والشاحنات في الرحلة الممتدة 800 كيلومتر برا من الخرطوم إلى بورتسودان في ولاية البحر الأحمر للصعود على متن سفن.
بينما توجه آخرون صوب الشمال لمسافة تبلغ ألف كيلومتر إلى حدود مصر، ليجدوا أنفسهم عالقين في صفوف انتظار تستمر لأيام للسماح لهم بالعبور.
لكن مع تزايد الأعداد وشح الوقود، قفزت أسعار التنقل إلى مئات الدولارات لتكون بعيدا عن متناول الكثيرين ومن بينهم الطلبة مثل يارو.
"ظننت أنها النهاية"
كان يارو مذعورا إلى حد أعجزه عن الرد حين واجهه المقاتلون، وقال لرويترز "ظننت أنها ستكون نهايتي".
لكن المقاتلين ضحكوا وتركوه في محطة الحافلات.
وتوسل يارو إلى رجل يركب دراجة نارية لتوصيله إلى الجامعة، ليجد أكثر من ألف نيجيري وبوركيني وتشادي وطلبة أجانب آخرين متجمعين فيها.
لكن في اليوم التالي لم تظهر أي حافلات، واعترى الغضب الكثيرين الذين كانوا بلا طعام أو مياه أو نقود أو كهرباء.
وقال يارو لرويترز عبر تطبيق زووم، بينما يُسمع صوت بكاء في الخلفية، "حتى ونحن نجلس هنا، يمكنكم سماع أصوات أعيرة نارية في كل مكان تقريبا.. لسنا آمنين هنا".
وقالت حكومة نيجيريا إنها حاولت استئجار 250 حافلة لإجلاء نحو 5500 من رعاياها وأغلبهم من الطلبة، لكنها لم تستطع توفير إلا 40 حافلة بتكلفة بلغت 1.2 مليون دولار.
ووصلت الحافلات العشر الأولى إلى الجامعة يوم 26 أبريل/نيسان الماضي، لكن لم يكن بها مكان ليارو، فكان عليه الانتظار أربعة أيام أخرى لنقله إلى بورتسودان في رحلة ليلية، وقال إن النيران اشتعلت في إحدى الحافلات في الطريق، لكن لم يُصب أحد.
واستطاع طالب نيجيري آخر، وهو كبير آدم (24 عاما)، أن يضمن مقعده في قافلة مغادرة من جامعة الرازي في الخرطوم إلى أرقين، وهو أحد معبرين رئيسيين على الحدود المصرية السودانية.
لكن لأسباب عديدة، اضطروا للنوم بالحافلة في تلك الليلة ثم توجهوا إلى مدينة وادي حلفا.
وحين وصلوا، قال سائق الحافلة إنه لا يملك تصريحا لتوصيلهم إلى المعبر الحدودي وتركهم على قارعة الطريق. وقال آدم إنه وآخرون، بينهم نساء حوامل، ناموا في العراء أربع ليال قبل أن تنقذهم مصر وتسمح لهم بالدخول.
وأكدت السلطات المصرية أنها توفر الإغاثة وخدمات الطوارئ في المعابر وتحاول تسريع إجراءات الدخول من خلال زيادة أعداد الموظفين الحدوديين.
رعب
حتى الأشخاص الأفضل حالا واجهوا صعوبات في الخروج، ومن بينهم بريدة موبايوا (34 عاما)، وهو مستشار أعمال من زيمبابوي، قال إنه بقي مع زوجته وابنه ذي العامين في غرفة المعيشة عندما تعرض منزلهم للأعيرة النارية.
ومن دون إنترنت أو حتى كهرباء لتشغيل هواتفهم، عانوا للتواصل مع سفارتهم أو أسرتهم. وقال موبايوا إنه وزوجته كانا يدخران الطعام والشراب القليلين لابنهما.
وبعد أسبوع، جاءتهم أنباء أنه ستتوفر وسيلة نقل تغادر من سفارة بلدهم إلى بورتسودان.
وقال موبايوا إن محرك سيارته أبى أن يعمل، ولم تكن هناك سيارات أجرة، فسار وزوجته أربعة كيلومترات تفصلهم عن السفارة. وأوقف مقاتلو قوات الدعم السريع الأسرة في الطريق، لكنهم تركوهم يمضون في حال سبيلهم عندما قال لهم موبايوا إنه يبحث عن طعام لابنه.
ومن بورتسودان انطلقوا إلى السعودية على متن سفينة شحن.
وقال موبايوا لدى هبوطه يوم الأحد في مطار هاراري عاصمة زيمبابوي، حيث بكى أقاربه وهللوا "كان الأمر مروعا، كنا ننام على الأرض، وكان الطقس قارس البرودة".