الواقع السوري يقول إنه لم يتبقّ من الفصائل المسلحة المعارضة من يحمل السلاح ضد دمشق وموسكو
لا يمكن فهم الاندفاعة العسكرية التركية مجدداً باتجاه عمق إدلب من زاوية واحدة أن محرضها فقط توغل القوات النظامية السورية السريع واستعادة سيطرتها على عشرات البلدات والمدن وأهمها معرة النعمان وسراقب، وتشكل استعادة السيطرة على تلك المناطق عنصر إقلاق للجانب التركي بكل أبعاده السياسية والعسكرية والاقتصادية والأمنية وحتى الأخلاقية ، فهي تنطوي على تحولات تشير من حيث المبدأ إلى إمكانية كسر مشروع تركيا الاحتلالي في الشمال السوري ولو على المدى البعيد. استعادة السيطرة على تلك المناطق أفصحت لأردوغان عن جوهر عقيدة موسكو العسكرية والسياسية الخاصة بسوريا والقائمة على عدم تفويت أي سانحة عسكرية أو سياسية لإنهاء الوجود المسلح المناهض لدمشق ولها، بما يضمن تعزيز وجودها وتثبيته وتوسيع نفوذها على قاعدة اغتنام الفرص حتى لو كان الطرف الآخر شريكاً لها في التكتيك الذي مارستها معه طوال فترة من الزمن. التحركات التركية الميدانية تأتي ضمن ظروف بيئة مختلفة بعض الشيء عن تلك الظروف التي ضبطت إيقاع اللاعبين الدوليين رغم كثرتهم على الأرض السورية، حيث تجنبوا المواجهة المباشرة وحتى الاحتكاك، حتى الآن، في كثير من تقلبات وتعرجات ساحات القتال السورية. من بين مستجدات البيئة ؛ بلوغ التناقض والتباين بين الشريكين الروسي والتركي هو مرحلة تبادل الاتهامات بشأن المسؤولية عن انهيار اتفاق سوتشي الذي نظم العلاقة بينهما ، كما هو مفترض بشأن واقع ومستقبل إدلب.. الدعم الروسي العسكري الكبير للقوات النظامية السورية وهي تقتحم إدلب فهمته أنقرة على أنه نسفٌ عملي لذاك الاتفاق، وإصرارٌ من جانب موسكو على الذهاب بعيداً في محاولاتها لإنهاء وجود إرهابيي هيئة تحرير الشام في تلك البقعة الجغرافية السورية وبقية الفصائل العاملة في كنفها.
الواقع السوري يقول إنه لم يتبقّ من الفصائل المسلحة المعارضة من يحمل السلاح ضد دمشق وموسكو سوى المجموعات الموجودة تحت سيطرة وإدارة أردوغان وصارت أداة لتنفيذ مخططاته، ويبدو أن مسألة بقائها باتت تحت المجهر كونها لم تعد تلبي مصالح الكثير من اللاعبين على الساحة السورية
أولى الإشارات الهامة على هامش مجريات الميدان المتسارعة ضمن البيئة الجديدة هي ملاحظة عدم تواصل بوتين وأردوغان مباشرة وهما اللذان اعتادا على سلوك هذا المنحى في أي منعطف تتعرض له تفاهماتهما في سوريا. موسكو ترجمت قناعتها بعدم الوثوق في أردوغان وعدم مصداقيته بدعم علني لهجوم القوات النظامية السورية وتغطيته جواً وبراً لفرض أمر واقع؛ وتحقيق هدفين: الأول معنوي يتمثل في إحراج الجانب التركي داخلياً وأمام المسلحين من الفصائل التي تخضع لإمرته، السوريين منهم والأجانب والتركستان والإيغور، وزيادة أعباء أنقرة جراء هزيمتهم، والهدف الثاني واقعي مرتبط ارتباطاً وثيقاً باستراتيجية موسكو في سوريا القائمة في أحد ركائزها على أنها صاحبة الأمر والفعل واليد العليا في مستقبل سوريا بما فيها صياغة علاقاتها الخارجية. جوهر رسالة روسيا في هذا المضمار هي أنها لن تتردد في اللجوء لتصفية بعض الحسابات وحماية مصالحها حتى مع شريكها عبر ميدان القتال في حال أخفقت أروقة الدبلوماسية في تحقيق المبتغى. بيئة مختلفة تتشكل حتماً من خلال إدلب، ومستجداتها تدفع باتجاه سلوك واحد من خيارين؛ فإما عودة الأتراك مجدداً إلى موسكو لصياغة تفاهمات جديدة تأخذ بعين الاعتبار ما حققه الروس عسكرياً على الأرض في إدلب، وإما استمرار المواجهة الميدانية غير المباشرة بينهما عبر القوات النظامية السورية من جانب والمسلحين من جانب آخر، مع ما يترتب على هذا الخيار من تبعات على المسار السياسي بين شريكي الأمس. فزعُ أردوغان وخشيتُه من أن تجري عملية خلط أوراق ومن ثم بعثرة مشروعه على الأراضي السورية أربكت حساباته فحشد آلاف الجنود مدججين بصنوف الأسلحة فيما تبقى من إدلب، ويبدو أن الأمر لا يتوقف عند هذا المحرض وحسب، فالكشف عن تفاهمات وصلت إلى مراحل متقدمة بين القوى الكردية ودمشق برعاية روسية مباشرة، ورعاية لقاءات متكررة بينهما والانتقال إلى دائرة البحث التفصيلي بشأن مطالب الأكراد ورؤيتهم لشكل الدولة السورية المنشودة ودورهم المقبل فيها، قرأته أنقرة من منظار حساباتها الذاتية ورأت فيه عقبة أخرى في وجه مشروعها في تكريس احتلالها لمناطق سورية بذريعة الدفاع عن أمنها القومي وحمايته من الخطر الكردي القادم من شمال سوريا، قراءة أوحت لأردوغان -كما يبدو- أن إحدى أهم أوراقه ستخرج من يده إذا ما تمكنت موسكو من تقريب وجهات النظر بين الطرفين (دمشق والأكراد) وبلورت اتفاقاً لاحقاً بينهما مع ما ينطوي عليه ذلك من تشكيل جبهة موحدة ضد تركيا ومشروعها وأطماعها. لا تقتصر اندفاعة أردوغان العسكرية صوب إدلب على مخاوفه من احتمال خسارته لها وتفاهمات دمشق مع القوى الكردية بل تتعداها إلى حساباته البعيدة في تنفيذ مخططه شمال البلاد، فهو يعتقد أن احتفاظه بإدلب أو ما تبقى منها بيد هيئة تحرير الشام الإرهابية التي يرعاها يمنحه مساحةً أوسع للمناورة على المسرح السياسي مع موسكو ومع بقية اللاعبين المنخرطين في الأزمة السورية من ناحية، وكذلك في المناطق التي احتلها في الشمال السوري من عفرين إلى أعزاز إلى الباب، ومنطقته الآمنة من رأس العين شمال الحسكة إلى تل أبيض شمال الرقة من ناحية أخرى، مع ما تعنيه سيطرة المسلحين على الطرق الدولية الواقعة على تخوم تلك المناطق والتي تصل شمال البلاد بغربها وجنوبها، لكن حساباته تلك تتناقض مع حسابات ومصالح موسكو التي تريد طي صفحة القتال والعمليات الحربية في سوريا لصالحها ولصالح دمشق في أسرع وقت ممكن، والانتقال إلى مسارات العملية السياسية والاقتصادية. الواقع السوري يقول إنه لم يتبقّ من الفصائل المسلحة المعارضة من يحمل السلاح ضد دمشق وموسكو سوى المجموعات الموجودة تحت سيطرة وإدارة أردوغان وصارت أداة لتنفيذ مخططاته، ويبدو أن مسألة بقائها باتت تحت المجهر كونها لم تعد تلبي مصالح الكثير من اللاعبين على الساحة السورية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة