إذا كانت جبهة النصرة تشكل تهديدا للمنطقة، فلماذا لا يتم شن عمليات عسكرية ضدها على غرار ما فعله الجيش التركي في مدينة الباب ضد داعش؟
حتى الآن لم نسمع أي توضيح أو تفصيل مقنع لمقترح أنقرة حول "تفكيك" الجماعات الإرهابية والمتطرفة في إدلب السورية، الذي قدمته منذ انطلاق مسار أستانة بالشراكة مع روسيا وإيران، والذي طرحه مجددا الرئيس رجب طيب أردوغان، خلال قمة طهران حول إدلب، فالعلاقة بين أنقرة وجبهة النصرة أو هيئة تحرير الشام ملتبسة بصورة غريبة، فتركيا كانت من أواخر الدول التي صنفت جبهة النصرة على قوائم الإرهاب، وجاء قرارها عشية إعلان تشكيل هيئة تحرير الشام، أي تغيير اسم الجبهة مما أفقد قرار تركيا تصنيف الجبهة إرهابيا معناه الحقيقي، لأن هيئة تحرير الشام بقيت حتى الشهر الماضي غير مصنفة كتنظيم إرهابي، حتى جاء قرار الرئيس أردوغان بوضعها على قوائم الإرهاب قبل أيام فقط من اجتماع طهران.
إذا كانت جبهة النصرة تشكل تهديدا للمنطقة، فلماذا لا يتم شن عمليات عسكرية ضدها على غرار ما فعله الجيش التركي مع قوات من المعارضة السورية في مدينة الباب ضد داعش، وضد حزب العمال الكردستاني في عفرين؟
وكالة رويترز صورت القوات التركية وهي تدخل إدلب بمرافقة قوات من جبهة النصرة قبل عدة أشهر، خلال نشر الجيش التركي نقاط مراقبته في محافظة إدلب، فيما أعلن وزير الخارجية التركي، مولود شاوش أوغلو، تأييده لنظيره الروسي في أنقرة منتصف الشهر الماضي، بأن هناك آلاف الإرهابيين في إدلب الذين يشكلون تهديدا للمنطقة، ومن هنا يحق للكثيرين طرح السؤال التالي: كيف يمكن الجمع بين تصنيف جبهة النصرة كتنظيم إرهابي، وتأكيد الحجة الروسية بوجود إرهابيين في إدلب، وفي نفس الوقت التنسيق مع جبهة النصرة لنشر قوات المراقبة التركية في إدلب؟ والسؤال الثاني: إذا كانت جبهة النصرة تشكل تهديدا للمنطقة، فلماذا لا يتم شن عمليات عسكرية ضدها على غرار ما فعله الجيش التركي مع قوات من المعارضة السورية في مدينة الباب ضد داعش، وضد حزب العمال الكردستاني في عفرين؟ والسؤال الثالث والأهم: ما هي خطة تفكيك جبهة النصرة أو هيئة تحرير الشام التي قدمتها تركيا ولماذا لم تنجح حتى الآن؟
لطالما اعتبرت المعارضة السورية أن جبهة النصرة هي مسمار جحا الذي تتحجج به دمشق وموسكو، من أجل شن عملياتها في مناطق خفض التصعيد التي يتواجد فيها قوات سورية معارضة "معتدلة"، وعليه فإن محاربة النصرة والقضاء عليها كان يجب أن يكون مهمة أساسية لهذه المعارضة قبل أن يكون حجة لموسكو ودمشق، لكن تستمر الانتقادات لجبهة النصرة دون تحريك أي ساكن ضدها.
قبل أسبوعين تداولت المعارضة السورية خبرا يفيد بانشقاق بعض الفصائل الصغيرة عن هيئة تحرير الشام واعتبرت ذلك "تقدما في الخطة التركية"، لكن الخبر أشار أيضا إلى أن هذه الفصائل لم تنضم إلى جيش التحرير الوطني الذي تم تشكيله من فصائل المعارضة "المعتدلة"، وإنما انضمت إلى تنظيم حراس الدين المصنف إرهابيا، بل الأشد تمسكا وموالاة لتنظيم القاعدة بزعامة أيمن الظواهري، فهل يكون انتقال المسلحين من تنظيم إرهابي إلى آخر إرهابي تقدما في خطة تفكيك جبهة النصرة؟ هل التسمية هي المهمة أم وجود هؤلاء المقاتلين بعقيدتهم القتالية التي تبايع الإرهاب؟ وهل يتحول الإرهابي الموالي للقاعدة إلى مدني عادي أو "ملاك" إذا انضم إلى تنظيم عسكري "معتدل" أو ألقى السلاح تحت الضغط؟ هل يترك هذا الإرهابي أفكاره وراءه بعد هذه الخطوة أم يتحول إلى خلية نائمة؟
المحللون الروس يقولون إنه من السذاجة أن نتوقع أن يلقي السلاح هؤلاء المسلحون الإرهابيون بمجرد دعوتهم إلى ذلك كما قال الرئيس أردوغان الذي طرح هذه الفكرة في قمة طهران، والحكومة التركية تعلم ذلك جيدا، ولكن الحديث عن تفكيك أو "ترويض" الجماعات المسلحة يبدو بوضوح أنه طرح الهدف الأساسي منه شراء الوقت، كما أن تهديد أنقرة بأن عملية إدلب ستنهي تفاهمات أستانة يبدو تهديدا أجوف، لأن مسار أستانة قد حقق أهدافه الروسية الإيرانية بسيطرة الجيش السوري على مناطق خفضا لتصعيد في درعا والغوطة، وبقيت إدلب التي تراهن تركيا على أنها الورقة الأخيرة للحصول على مطالبها السياسية في هذا المسار، وعليه فإن إنهاء أنقرة مسار أستانة سيكون بمثابة من يطلق النار على قدمه، بينما كلما استمر مسار أستانة وتأخر حسم ملف إدلب يصب في صالح تحقيق أهداف سياسية تركية عدة.
فأنقرة تستخدم ورقة إدلب والإرهابيين فيها واحتمال لجوء الآلاف من المدنيين إلى حدودها من أجل مساومة دول أوروبية -ألمانيا وفرنسا خصوصا- من أجل الحصول على دعم مالي واقتصادي في أزمتها المالية الراهنة، فورقة اللاجئين وفتح الأبواب أمامهم للوصول إلى أوروبا أثبتت نجاعتها سابقا، وضغطت على ألمانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي من أجل التخفيف من ضغوطاتها على أنقرة، فيما يتعلق بالخروقات الحاصلة في تركيا بشأن حقوق الإنسان والحريات، وكثير من المعلقين والسياسيين الأوروبيين اتهموا صراحة قيادات بلادهم بالرضوخ لهذا الضغط التركي، والأخطر على أوروبا جاء في تصريح لوزير الخارجية التركي قبل أيام حين قال "إنه يمكن إعادة المسلحين الإرهابيين إلى دولهم الأصلية بدلا من قتلهم في عمليات قد تؤدي إلى مقتل المدنيين في إدلب"، وقد اعتبر عدد من المحللين الأتراك أن هذا تهديد صريح لأوروبا، لأن عودة هؤلاء تعني انتقال الإرهاب إلى حضن أوروبا، فلا أحد يتوقع أن شاوش أوغلو يعني بتصريحه هذا إلقاء القبض على هؤلاء الإرهابيين أحياء في إدلب وتسليمهم لسلطات الأمن في أوروبا، فذلك غير ممكن عمليا، وعليه فإن المقصود هنا هو فتح الحدود التركي أمام الفارين من هؤلاء الإرهابيين من إدلب للوصول إلى أوروبا مع آلاف اللاجئين، وهو ما سيشكل كابوسا لأوروبا.
في المقابل فإن لأنقرة عددا من المطالب السياسية في "سوريا الجديدة" تريد ضمان تحقيقها قبل سقوط آخر أوراقها في سوريا وهي محافظة إدلب، ومن أهم هذه المطالب أن يكون لأنقرة كلمة في تحديد مستقبل أكراد سوريا، والتأكد من عدم حصولهم على فدرالية أو حكم ذاتي في شمال سوريا، بالإضافة إلى الحصول على ضمانات لمشاركة تركيا في مشاريع إعادة الإعمار، وخصوصا في حلب وريفها والمناطق المحاذية للحدود التركية، وثالثا، هو التأكد من أن يكون للمعارضة السورية الموالية لتركيا دور سياسي فاعل في مستقبل سوريا الجديدة، وعليه فإنه من المهم بالنسبة لأنقرة أن يطول أمد أزمة إدلب لحين الانتهاء من صياغة الدستور السوري الجديد، وظهور ملامح حل سياسي في سوريا.
من المهم إذن بالنسبة لتركيا بقاء سيطرة الفصائل المسلحة على إدلب لحين تحقيق مطالبها السياسية، لكن مجريات الأمور في سوريا كشفت عن أن قاعدة السيطرة على الأرض تأتي فقط من خلال محاربة التنظيمات الإرهابية، مثلما حدث مع الأكراد الذين قاتلوا داعش بدعم أمريكي وباتوا يسيطرون على ثلث سوريا، وعليه فإن روسيا يمكنها أن تقبل ببقاء سيطرة الفصائل المسلحة "المعتدلة" على جزء من إدلب فقط في حال قاتلوا جبهة النصرة وغيرها من فصائل أجنبية وإرهابية، وهو اختبار خطير لا تميل له تركيا لأنه قد يفجر هجمات انتقامية ضدها من قبل تلك الفصائل الإرهابية التي تمتد جذورها إلى داخل تركيا بوجود خلايا نائمة لها في محافظات الجنوب التركي، وتفضل تركيا أن يتم القضاء على تلك الفصائل على يد الروس والجيش السوري، مع بقاء أنقرة على موقفها الرافض لأي عملية في إدلب تؤدي إلى قتل مدنيين.
أخيرا تستفيد أنقرة من الرفض الأمريكي الأوروبي لعملية إدلب من أجل الحصول على دعم سياسي لموقفها، لكن هذا الرفض الغربي لا ينبع من القلق من حدوث مجازر للمدنيين في إدلب كما هو معلن، ولكن من أجل الضغط على موسكو وزيادة كلفة العملية عليها، من أجل انتزاع تنازلات روسية باتجاه خروج المليشيات الإيرانية من سوريا، وفي هذا الإطار تجد أنقرة غطاء غربيا لتزويد المقاتلين "المعتدلين" في إدلب بالسلاح.
يعترف مستشار الرئيس التركي أيض أونال في مقالته بتاريخ 10 سبتمبر بأن "إدلب ستعود في النهاية إلى سيطرة الأسد بشكل من الأشكال"، وأن على تركيا أن تعمل من أجل "حماية مصالحها وتخفيف فاتورة الدم في إدلب قدر الإمكان". وتشير التسريبات إلى أن المفاوضات تحت الطاولة بين روسيا وتركيا تجري باتجاه عرض روسي لتركيا بأن تحتفظ بمناطق درع الفرات غصن الزيتون أي أعزاز وعفرين وجرابلس والباب، تنفيذا لاتفاقية أضنة الموقعة بين تركيا وسوريا عام 1999 التي تعطي أنقرة الحق بدخول جيشها إلى نحو 40 كيلومترا داخل الأراضي السورية "لمحاربة الإرهاب". وأن يتم استيعاب اللاجئين من إدلب في تلك المناطق.
تدرك أنقرة أن العملية الروسية السورية قادمة لا محالة في إدلب، وتسعى لتأخير حسمها من أجل ضمان الحصول على مصالح سياسية في سوريا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة