خلاصة القول إن أنقرة تود بناء "سلطنة عثمانية جديدة" في هذه المنطقة من خلال هذا العدوان
لم يتضح بعد شكل الاتفاق العسكري المُبرم مؤخراً بين قوات "سوريا الديمقراطية" وحكومة الأسد برعاية روسية، لكنه يعيد إلى الأذهان صفقة "المصالحات" التي تمت بين الحكومة السورية ومعارضتها قبل سنوات جنوب البلاد، والتي بموجبها عادت مختلف المناطق الواقعة في أطراف العاصمة دمشق ودرعا إلى الحكومة بعد سيطرة المعارضة عليها لسنوات قبل ذلك.
إن لم تتمكن هذه الأطراف معاً من تحقيق ذلك فقد نستيقظ غداً على أخبار مجازرٍ جديدة حصلت للتو، وقد نرى أن الجيش التركي برفقة مسلحي "الإخوان المسلمين" ومعهم فلول تنظيمي داعش والنصرة الإرهابيين قد دخلوا حدود العراق!
هذا الاتفاق الذي يشير مسؤولون في قوات "سوريا الديمقراطية" المعروفة بـ"قسد" إلى أنه "عسكري" و"لم يكن تفاهماً سياسياً" أبداً، سيمنح المنطقة التي تسيطر عليها هذه القوات منذ منتصف عام 2012 وجهاً جديداً لا يشبه الذي كان موجوداً في السابق طيلة السنوات الماضية، بعد دخول قوات الأسد إلى مدينة كوباني الأسبوع الماضي رفقة قوات روسية.
ويصف مسؤولو "سوريا الديمقراطية" هذا الاتفاق بـ"اتفاق الضرورة" والذي جاء تحت ضغوط كبيرة سياسياً وعسكرياً، فالهجوم التركي على الأراضي السورية شرق الفرات من جهة وانسحاب القوات الأمريكية منها من جهة أخرى، جعل الطريق إلى هذه المناطق سالكاً أمام القوات الروسية ومن ثم توقيع هذا الاتفاق مع حكومة الأسد أخيراً.
ويبدو واضحاً أن "اتفاق الضرورة" جاء في اللحظات الأخيرة من إدراك "قسد" أن أنقرة ستستمر في هجومها العسكري برفقة مسلحين سوريين موالين لها بعد فشل واشنطن مع الاتحاد الأوروبي بوقف إطلاق النار رغم الاتفاق الأمريكي-التركي قبل يومين.
لقد أدركت هذه القوات بالفعل أنها ستقاتل في معركة "غير متكافئة"، فأنقرة تستخدم سلاحها الجوي، بينما تحصينات "قسد" بالقرب من الحدود مع تركيا مدمرة منذ أسابيع قبيل الهجوم التركي، بعد التزامها بتطبيق شروط "المنطقة الآمنة" التي يطالب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتأسيسها.
وعلى الرغم من التزام قوات "سوريا الديمقراطية" بشروط قيام "المنطقة الآمنة" التي تدعو أنقرة لإنشائها كتدمير الخنادق وسحب الأسلحة الثقيلة منها، بقي الخلاف الأكبر بين الطرفين على عمقها؛ حيث تطالب أنقرة بعمق يصل إلى أكثر من 30 كيلومتراً، بينما "قسد" ترفض ذلك، ورغم محاولات واشنطن المضي في إنشاء هذه المنطقة بعد تسيير دورياتها المشتركة مع تركيا فيها الشهر الماضي، فشل كل الأطراف معاً، وبدأ الهجوم التركي يوم التاسع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
اليوم تدور الاشتباكات على أطراف مدينتي تل أبيض ورأس العين، لكن طرفاً ثالثاً دخل هذه الجبهات بعد "اتفاق الضرورة" وهي قوات الأسد التي ستنتشر بموجب هذا الاتفاق على طول الحدود مع تركيا، ما يعني لاحقاً رفع أعلام الحكومة السورية في هذه المناطق كما حصل في منبج.
ويؤكد مسؤولون في "سوريا الديمقراطية" إن هذا الاتفاق سيليه اتفاق آخر وهو "سياسي"، لكن يبدو هذا "ضرباً من الخيال"، فمسؤولو حكومة الأسد يواصلون القول باستمرار إن أكثر ما يمكن أن تحصل عليه "قسد" هو "المصالحة" مع النظام، الأمر الذي يبدو أنه ربما قد حصل مع "اتفاق الضرورة".
وحسب هؤلاء المسؤولين فإن "هذا الاتفاق يحمي المدنيين من أي هجومٍ تركي" وهذا صحيح، لا سيما أن أنقرة لا تعارض بقاء قوات الأسد على حدودها الجنوبية، كما يعني أيضاً "قطع الطريق أمام "التمدد التركي" داخل الأراضي السورية، فقد منع دخول الروس وقوات الأسد إلى مدينة كوباني أنقرة من تحقيق "التواصل الجغرافي" بين مناطق نفوذها شمال غربي البلاد وبين شمال شرقها الذي تدور فيه المعارك حالياً.
ورغم ذلك لا تزال أنقرة تطالب باستمرار بالسيطرة على المناطق الممتدة بين رأس العين وتل أبيض، كشرطٍ أساسي لوقف إطلاق النار وهي منطقة يتجاوز طولها نحو 140 كيلومتراً، وتطالب أنقرة كذلك بعمق في هذه المناطق يصل إلى نحو 30 كيلومتراً، وتهدف بذلك إلى السيطرة على طريق حلب-الحسكة الدولي والذي يربط كوباني غرباً بالقامشلي شرقاً.
ومن ثم يهدد هذا التمدد التركي الهادف للسيطرة على هذه المناطق السلم الأهلي، ويشكل المدخل الرئيسي لدخول "العثمانيين الجدد" إلى المنطقة من بوابة المدن ذات الغالبية الكردية؛ إذ يحلم أردوغان ببناء قصور فيها للاجئين السوريين ومن ثم تغيير ديمغرافية المنطقة على حساب السكان الأصليين من الأكراد والعرب والسريان والآشوريين.
وتتخذ أنقرة من "أمنها القومي" ذريعة لهجومها الجوي والبري هذا، وتهدف من خلاله إلى القضاء على المقاتلين الأكراد الذين يشكلون النواة الأساس في قوات "سوريا الديمقراطية" من خلال وحدات حماية الشعب "الكردية" التي تصنفها أنقرة كمنظمة "إرهابية"، لكن هل هذا "الأمن القومي" يقضي بالضرورة القضاء على السكان الأصليين؟ وهل أطلقت "سوريا الديمقراطية" رصاصة واحدة تجاه حدودها قبل هذا العدوان؟
لقد أدى هذا الهجوم إلى نزوح نحو أكثر من مئتي ألف شخص في القرى والبلدات ذات الغالبية الكردية الواقعة على الحدود مع تركيا، فضلاً عن مقتل المئات مدنيين وعسكريين والتمثيل بجثثهم، على الرغم من أن المجتمع الدولي يدرك جيداً أن من يقاتلون الآن ليسوا من حزب "العمال الكردستاني" بل من قوات "سوريا الديمقراطية" والمجالس العسكرية المحلية التي أشرفت واشنطن على تأسيسها، وهي مكونة من مقاتلين محليين من الأكراد والعرب والسريان والآشوريين، من السكان الأصليين في هذه المناطق.
خلاصة القول إن أنقرة تود بناء "سلطنة عثمانية جديدة" في هذه المنطقة من خلال هذا العدوان، لكن قوات "سوريا الديمقراطية" تمكنت بالفعل من قطع أوصالها بعد دخول قوات الأسد والروس معاً إلى مدينة كوباني، ورغم ذلك لا تزال تهدد أنقرة على لسان رئيسها بمواصلة الاجتياح البري.
لذلك على الحكومة السورية فتح أبواب دمشق لأكرادها، لا سيما أنها تتفق مع "قسد" على ضرورة المحافظة على وحدة الأراضي السورية وحماية حدودها من التهديدات الخارجية، بالإضافة لرفضهما معاً تقسيم البلاد.
إن مشروع "العثمانيين الجدد" يهدد المنطقة العربية برمتها وليس فقط الأكراد، وقد خرج علينا قبل أيام وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو في لقاءٍ مُتلفز وخلفه خارطة "أجداده العثمانيين"، وكانت مدينة الموصل العراقية وحلب السورية تظهران بوضوح ضمن حدودها.
الكرة الآن في مرمى الحكومة السورية ومعها جامعة الدول العربية، على الطرفين المشاركة معاً إيجادٍ حلولٍ سياسية وعسكرية بالتعاون مع المجتمع الدولي، تقضي بوقف هذا العدوان التركي على الأراضي السورية.
إن لم تتمكن هذه الأطراف معاً من تحقيق ذلك فقد نستيقظ غداً على أخبار مجازر جديدة حصلت للتو، وقد نرى أن الجيش التركي برفقة مسلحي "الإخوان المسلمين" ومعهم فلول تنظيمي داعش والنصرة الإرهابيين قد دخلوا حدود العراق!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة