سجلت الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2024، تصاعداً خطيراً في عمليات القتل في سوريا، رغم ما هو معروف وشائع عن وجود اتفاقات وتوافقات معلنة أو ضمنية
سواء بين سلطات الأمر الواقع التي تتقاسم السيطرة على الجغرافيا السورية، تشمل مناطق الإدارة الذاتية ومناطق السيطرة التركية ومناطق سيطرة النظام، أو لجهة القوى الإقليمية والدولية المتدخلة في سوريا، وأبرزها قائمة تضم إيران وتركيا وإسرائيل، إضافة إلى روسيا والولايات المتحدة.
وتتقدم المذابح الجماعية الخط الأول من عمليات القتل في سوريا، وكان بين آخرها الإعلان عن مقتل وجرح أكثر من ثلاثين مدنياً في حصيلة غير نهائية نتيجة تفجير سيارة مفخخة في مدينة أعزاز الخاضعة لسيطرة الفصائل المسلحة في شمال غربي سوريا، وقبلها بأيام، حدثت مجزرة قُتل وجُرح فيها أكثر من عشرين مدنياً جراء انفجار لغم أرضي بسيارة، كانت تقلهم في أثناء تنقلهم بحثاً عن الكمأة في الريف الشرقي من محافظة الرقة، وتزامن مع الأخيرة هجوم على سيارة عسكرية في ريف درعا قتل وجرح فيه أربعة أشخاص، والقاسم المشترك في كل المذابح، أن مرتكبيها لم يتركوا أثراً يدل عليهم، ولا أعلن طرف مسؤوليته عن أي منها.
وكان الأعنف في المذابح الجماعية الأخيرة، ما نتج عن هجوم إسرائيلي واسع في حلب قتل فيه وجرح عشرات من المسلحين والمدنيين، وكان بين الأخيرين نساء وأطفال، وقبله حدث هجوم جوي واسع من طائرات مجهولة على أهداف متقاربة في دير الزور شرق سوريا، قُتل وجرح فيه عشرات المسلحين، وعشرة من المدنيين، وكان بين آخر العمليات القوات الروسية في سوريا وقيام طائراتها بتدمير قاعدة لمسلحين محسوبين على المعارضة في ريف حمص، وقتل في العملية أكثر من عشرين شخصاً، وشاركت طائرات روسية وأخرى سورية في هجمات على أهداف مدنية في مناطق السيطرة التركية في محيط إدلب، والتي تعرضت إلى قصف صاروخي إيراني متزامن، ونتج عن الهجمات قتل عشرات المدنيين بينهم نساء وأطفال، ولم تكن مناطق الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا ومناطق السيطرة التركية في الشمال الغربي بعيدة عن المذابح الجماعية، حيث سقط عشرات من المسلحين والجنود والمدنيين نتيجة عمليات قصف وهجمات متبادلة بين قوات «قسد» التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، والقوات التركية وحلفاؤها من مسلحي التنظيمات المسلحة في الشمال السوري.
أما الخط الثاني فكان عمليات القتل الإفرادية، التي كانت كثيرة ومتنوعة، شملت كل المناطق، وشارك في ارتكابها أشخاص وأعضاء في جماعات وعصابات مسلحة، وعاملون في أجهزة أمنية وتشكيلات عسكرية، والأكثر حضوراً في قائمة مرتكبي الجرائم الفردية، ينتمون إلى أجهزة النظام السوري العسكرية والأمنية والميليشيات التابعة له، وتأتي في المرتبة الثانية الأجهزة العسكرية والأمنية في سلطات الأمر الواقع في الإدارة الذاتية، ومنطقة سيطرة الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف، وحكومة الإنقاذ التابعة لـ«هيئة تحرير الشام» شمال غربي سوريا، وسجلت ووثقت تقارير حقوقية سورية ودولية كثيراً من عمليات قتل وإعدام ميداني ارتكبتها الأجهزة بحق سوريين في مناطق سيطرتها، شملت معارضين وصحافيين من نساء ورجال ناشطين في العمل العام، وبينها عمليات قتل معتقلين تحت التعذيب.
عمليات القتل الجماعية والفردية في أكثرها طالت السوريين، سواء كانوا هدفاً للعمليات، أو بحكم وجودهم في مكان العمليات أو بالقرب منه، كما طالت عمليات القتل، وبخاصة العمليات الإسرائيلية، عناصر من حلفاء النظام الإيرانيين وأنصارهم من الميليشيات مثل «حزب الله» اللبناني وفصائل من «الحشد الشعبي» العراقي، و«لواء زينبيون» الباكستاني وميليشيات «فاطميون» الأفغانية، إضافة إلى جنود أتراك ومقاتلين في قوات «قسد» من جنسيات مختلفة قتلوا في العمليات البينية، وكان بين ضحايا عمليات قصف النظام وحلفائه الروس والإيرانيين مناطق شمال شرقي سوريا مقاتلون أجانب في التنظيمات الإسلامية المتطرفة أبرزها «هيئة تحرير الشام».
ورغم أن بعض القتلى من الجنود والمسلحين، فإن القسم الأكبر من القتلى كان من المدنيين؛ لأن التفجيرات والهجمات الدموية ركزت على أسواق ومناطق سكنية ومخيمات ومراكز خدمات عامة، ليس لها ولمن فيها علاقات بالتشكيلات العسكرية والمسلحة المتصارعة، وإذا كان من الطبيعي أن تكون غالبية القتلى من الرجال، فإن قوائم الضحايا، ضمت نساء وأطفالاً، وبخاصة عمليات النظام وحلفائه ضد الأهداف المدنية.
وإذا كان القتل خارج القانون يعدُّ جريمة تستحق المساءلة، وإيقاع العقاب بالمجرمين، فإنه في الحالة السورية جريمة مضاعفة؛ لأنه عشوائي وانتقامي ومجاني في أغلب الأحيان، وهو أداة في عمليات إجرامية لاحقة هدفها إحداث تغييرات جغرافية وسياسية عبر تخويف المدنيين، وجعل حياتهم أصعب ودفعهم إلى طريق الهجرة، حتى يمكن إحداث تغييرات ديمغرافية، تلبي حاجات النظام وحلفائه الإيرانيين في مناطق سيطرة النظام، وهو هدف يجد له هوى لدى سلطات الأمر الواقع عند الإدارة الذاتية ولدى الجماعات المسلحة و«هيئة تحرير الشام» في شمال غربي سوريا، ولعل الأهم في عمليات القتل أنها تزيد صعوبات الحل الذي يتوافق السوريون وقوى واسعة في العالم على أن يكون حلاً سياسياً.
إن واقع الحال فيما يحيط بجرائم القتل في سوريا يؤكد ضرورة ألا ينظر لها منفصلة عن جرائم أبعد وأشد خطراً مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، والتدقيق فيها ورؤية روابطها وعلاقاتها وطبيعة القائمين بها، مما يفرض أن يتم فيها تحقيق نزيه ومدقق، وأن تحال إلى مرجعيات دولية ذات خبرة، وأن تباشرها محاكم مختصة، تصدر أحكاماً ممكنة التنفيذ.
غير أنه، وفي الطريق إلى تطبيق هذا المسار، لا بد من خطوات تساهم في التخفيف من وقوع الجرائم عبر إشهارها، والتنديد بمرتكبيها والسعي إلى عقابهم، والعمل على إعداد خرائط عن زرع الألغام التي تمت في مناطق الصراع والمواجهات، وإطلاق خطة أممية لإزالة الألغام، وبخاصة من المناطق الزراعية والمأهولة، وتقيد العبور في المناطق الملغمة، وتجريم كل طرف يمتنع عن الكشف عما قام به، كما يتطلب الأمر ضرورة التأكيد على أطراف الصراع في سوريا وقف عمليات القصف العشوائي، واستهداف المناطق السكنية والمستشفيات والمدارس والأسواق، وإيقاف عمليات التَّعذيب التي تسبّب موت الموقوفين داخل مراكز الاحتجاز، والامتثال للقرارات الدولية ومحتويات القانون الإنساني.
إن اعتماد الإجراءات السابقة، وما يمكن أن يدعمها ويعزز هدفها في إيقاف القتل في سوريا، سوف يحسن البيئة السياسية والمعاشية في البلاد، ويساهم في دفع الأطراف المختلفة للسير خطوات جديدة نحو الحل السياسي.
نقلا عن الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة