يعيد الحديث التركي عن "حزام أمني" على الحدود مع سوريا والعراق؛ طرح أسئلة جديدة قديمة متعلقة بالظروف الداخلية التركية من ناحية، والإقليمية والدولية المحيطة بهذه المسألة من ناحية أخرى.
هل تغيّرت أولويات اللاعبين المنخرطين في الاشتباك السياسي والميداني في المنطقة المستهدفة بالحزام التركي؟ أم هل باتت القضية ملحة داخليا على حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان نتيجة حمولاتها الأمنية المتأتية من مصدرين؛ الأول من الاختراقات المحتملة التي قد تتسع من خلال عمليات تفجير أو استهدافات ربما ينفذها عناصر مرتبطون بهياكل "البي كي كي"، والآخر من تفاعلات ملف اللاجئين السوريين وانعكاساته المباشرة على الأمن المجتمعي التركي بين معارض لوجودهم وبقائهم وبين مستثمر لهذه القضية في مناسبات واستحقاقات عامة؟
جُوبهت التوجهات التركية لإنشاء "منطقة آمنة" شمال سوريا قبل أكثر من ست سنوات باعتراضات من حلفائها الأمريكيين أولاً، مرتبطة بمصالح واشنطن ووجودها العسكري في مناطق شرق الفرات ورعايتها لقوات "قسد" التي تسيطر على تلك المنطقة وتديرها، وثانياً من قبل خصومها الإيرانيين والروس الذين يلتقون عند ضرورة مواجهة القوات الأمريكية وإفشال جميع مشروعاتها ومشاريع حلفائها، محليين أو غير محليين، باعتبارها نقيضة لمصالحهم ولأهدافهم الاستراتيجية، عدا عن صراعهم المعهود على النفوذ والتوسع.
ومن الطبيعي أن يكون الرفض السوري قاطعاً لخطط تركيا، والتهديد بالعمل على مجابهته بكل السبل المتاحة موقفا مبدئيا سياديا.
اليوم يكتسب تحدي المشروع التركي "المزمع" زخماً أكبر مما كان عليه في السنوات السابقة نتيجة عوامل متعددة أفرزتها تحولات دبلوماسية وسياسية وأمنية على الملف السوري، تمثلت بالانفتاح السياسي العربي على سوريا واستعادتها مقعدها في الجامعة العربية، والتأكيد العربي على وحدة أراضيها وسيادتها واستقلالها، إضافة إلى تمسك الدولة السورية بأوراقها الفعالة إبان مراحل التفاوض مع الجانب التركي سواء ما تعلق منها بموضوع قسد، أو قضية انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية في الشمال، أو وجوب إنهاء رعاية تركيا للفصائل المسلحة المعارضة بما فيها هيئة تحرير الشام المصنفة دولياً منظمة إرهابية.
مجمل هذه المعطيات المستجدة على الملف السوري تفرض قراءة مغايرة لمدى واقعية إنشاء الحزام الأمني المزمع في الشمال السوري ولمدى قابليته للحياة، مقارنة بالواقع العراقي الراهن، إذ تتفاعل غالبية التيارات والكتل السياسية في السلطة وفي المعارضة مع المشروع التركي، ومع ذلك فإن ترجمته على أرض الواقع شمال العراق دونها صعوبات وتحديات أمنية وعسكرية كبيرة بسبب طبيعة جغرافية المنطقة ووعورتها ومتاهاتها الجبلية وخطوط الإمداد متعددة المصادر التي يستفيد منها مقاتلو "بي كي كي".
القراءة الواقعية تستمد رؤاها من حقائق سياسية خاصة لدى كل دولة من الدولتين العربيتين الجارتين، سوريا والعراق، بمعزل عن بعضهما.
على الجانب العراقي ثمة حقائق تصب في مصلحة التوجه التركي بعضها مرتبط بماهية العلاقة بين البلدين وتقاطع مصالحهما عند ضرورة طي صفحة الخلافات التي تسببها نشاطات حزب العمال الكردستاني من الشمال العراقي، وتحديداً من جبال قنديل، ضد مصالح أنقرة وأراضيها، خصوصاً مع تقدم ملموس في التفاهمات حول الانتقال، بعد إنجاز هذا الهدف المشترك، إلى مرحلة من العلاقات التنموية والتفاعلية المتقدمة في قضايا المياه والاستثمار والطاقة، وكل الأهداف المنشودة قابلة للتحقيق استناداً إلى الاستقرار السياسي في العراق الذي تعتبره أنقرة رصيداً مهماً لخطواتها المشتركة مع بغداد .
على المقلب السوري تبدو الأمور معاكسة تماما للرغبات والنوايا التركية؛ لأسباب منبثقة من جوهر الواقع السوري القائم الذي أنتجته سنوات الصراع وما جلبه من صعوبات أسهمت في نقله من صراع فيها إلى صراع عليها بين قوى إقليمية ودولية، بعضها يعارض سياسة تركيا في الملف السوري وينسجم مع الموقف السوري الرسمي في هذا الخصوص، وبعضها انخرط بشكل مباشر في الصراع، وبعضها وظف تيارات وقوى محلية لتحقيق أهدافه.
رغم ما تحوزه أنقرة من أوراق مؤثرة في المشهد السوري حتى الآن وعلى المدى المنظور، فإن ما يعترض أهدافها المعلنة والمضمرة لا يقل تأثيراً عليها وعلى خططها لإقامة حزام أمني شمالي سوريا، فوجود الدولة السورية بمقوماتها وركائزها الداخلية، وتوظيف علاقاتها الخارجية واستثمار ما هو متاح منها، أسهمت بشكل كبير في الحد من تداعيات الحرب وتطورات الأحداث ومخاطرها على كيانها السياسي، ولا يبدو اليوم أن أي أولوية من أولويات تلك القوى قد طرأت عليها تغييرات، أو تبدلت حساباتها، أو تغيرت استراتيجياتها .
إذا كان هدف تركيا إبعاد حزب العمال الكردستاني عن حدودها الجنوبية، وإنهاء خطره القادم من شمال سوريا كما تقول، فإن أنقرة تجازف بوضع نفسها ومن يواليها في مواجهة مع الدولة السورية وحلفائها المحليين والخارجيين، ما يعني أن الحزام لن يوفر الأمن لأحد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة