السوريون وإن كنت تراهم هكذا يا "فخامة الرئيس" إلا أنهم ليسوا سلعة ولا بضاعة تعرضها على بسطاتك السياسية كلما شعرت بفراغ جيبك
مصائب قوم عند قوم فوائد, قالها الشاعر العربي الكبير المتنبي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، ولكن المثل العربي الشهير صاغه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صياغة جديدة -كعادته في الانقلاب حتى على ذاته- تتناسب وسياسته القائمة على البيع والتجارة بالقضايا، فصار على يديه "مصائب قوم عند قوم بضائع"، بل إنه يجعل الأقوام ذاتهم بضائع لا مصائبهم فقط، وهذا ما يشهد عليه سلوك أردوغان السياسي سواء في الداخل التركي أو في الخارج، متاجراً بكل شيء يمكن أن يجلب له السطوة والتفرد أو يبعد عنه الخصوم والمعارضين.
السوريون وإن كنت تراهم هكذا يا "فخامة الرئيس" إلا أنهم ليسوا سلعة ولا بضاعة تعرضها على بسطاتك السياسية كلما شعرت بفراغ جيبك وإفلاسك من صفقاتك الخائبة، السوريون يا "فخامة الرئيس" وأنت القارئ الجيد للتاريخ -كما تحب أن تُظهر نفسك- كانوا وما زالوا وسيبقون أقدم حضارة عرفها التاريخ
فعلى المستوى الداخلي لم يسلم من هذه السياسة القائمة على الاستبداد وتكريس السلطنة والسلطان حتى شركاء أردوغان، بل إخوته في السياسة وصناعة حزب العدالة والتنمية، والأمثلة أكثر من أن تعد أو تحصى، بل إنها لم تستثنِ أحداً وخير مثال على ذلك ما فعله أردوغان بـ"عبدالله غول" و"أحمد داود أوغلو"، وهما الأعمدة الأساسية والأركان الثابتة التي اعتمد عليها "أردوغان" للوصول إلى سدة الحكم في تركيا، التي ما إن وصلها حتى بات ينسج المؤامرات والخطط لإزاحتهما من طريقه، فعلى الرغم من أن عبدالله غول رفيق أردوغان وشريكه في السياسة ومؤسس "حزب العدالة والتنمية" وفق المبادئ التي وضعوها ورفاقهم المؤسسون فإن أردوغان حاول سحب البساط من تحت "غول" وتحويله إلى دمية لتنفيذ أجنداته في التفرد بالسلطة على الحزب أولاً، ومن ثم التفرد بالسياسة التركية بعد أن كان "أردوغان" رئيساً للحكومة و"غول" رئيساً لحزب العدالة والتنمية، فطرح أردوغان على "غول" أن يستلم رئاسة الحكومة عام 2014 والعمل على تمرير الإصلاحات الدستورية التي طرحها أردوغان دون معارضة أو تفكير، الأمر الذي ارتاب منه "غول" واشترط لذلك أن يمارس جميع صلاحيات رئيس الحكومة وباستقلال تام، ما أثار حنق أردوغان فانقلب على "غول" داخل الحزب مطيحاً به عن رئاسته.
كما وصفه أعضاء الحزب بعد أن قرر الترشح للانتخابات الرئاسية عام 2018 بالخيانة، متناسين أنه هو المؤسس لحزبهم ما يوضح جلياً أن أردوغان نفذ انقلاباً على حزبه ذاته وليس على الرفاق فقط، وقد أوكل أردوغان رئاسة الحزب بعد غول لرفيق آخر وهو "أحمد داود أوغلو" كما أسند له رئاسة الوزراء من العام ذاته 2014، ليطيح به بعد ذلك بدءاً من تقليص صلاحيات "أوغلو" داخل الحزب إلى عزله من منصبه عام 2016 وإخراجه من الحزب نهائياً في سياسة ثابتة ينتهجها أردوغان، بالإضافة إلى تحويل مفاصل الدولة كلها بيده وتحت إمرته.
أما المستوى الخارجي فلا يخفى على أحد بدءاً بالتقلب واللعب على الحبال المتضادة والجهات المتعاكسة والتنقل بين الحلفاء مثل الولايات المتحدة وروسيا إلى التدخل في كل الشؤون الداخلية للمنطقة، كما في مصر وليبيا وسوريا، التي لطالما كانت بالنسبة لأردوغان البقرة الحلوب والتجارة الرائجة منذ دخول أنقرة بوضوح وبشكل مباشر على الساحة السورية بدعم فصائل مسلحة من الحراك السوري لشراء الولاءات إلى تشكيل فصائل وتأسيسها على الولاء لأردوغان وسياسته، فبدأ أردوغان بعدها بسياسة الابتزاز والمتجارة بالدم السوري على حساب صفقات سياسية مع "واشنطن" و"موسكو".
ولم يقف أردوغان عند هذا الحد، بل إنه تاجر بالإنسانية ومحن السوريين ولجوئهم أيما تجارة، فكلما رأى أردوغان أن الميدان يضيق عليه وتجارته بالدماء لا تدر له المكاسب المرجوة اعتلى منبراً وبدأ بابتزاز العالم عموماً والأوروبيين خصوصاً؛ باستخدام اللاجئين الذين ضاقت عليهم الدنيا على وسعها، وذلك بفتح الحدود أمامهم ليتسابقوا في الهروب من جحيم الحرب والقصف والتخوين في بلادهم وذلّ الاستغلال في تركيا إلى أوروبا مما لا يدع مجالاً للشك بأن أردوغان يمارس عليهم الضغط بتحويل تركيا بالنسبة لهم سجناً كبيراً لا يحلمون إلا بمنفذ ليحطموا أسواره هرباً منه وإلا لو كانوا آمنين فما الذي يدفعهم للتسابق إلى الموت غرقا من أجل الوصول إلى أوروبا، وما الذي يدفع أردوغان للتهديد بفتح الحدود؟ سياسة لا تخفى على أحد كما لا يخفى على أحد أوضاع السوريين في تركيا الذين تم تحويلهم إلى آلات وكأنهم في زمن السخرة من أجل لقمة العيش من جهة وإلى سلعة يبتز بها أردوغان الأوروبيين كلما ضاقت عليه الدوائر بعد أن تاجر بدمائهم في بلدهم ليجبرهم إلى اللجوء إليه.
السوريون وإن كنت تراهم هكذا يا "فخامة الرئيس" إلا أنهم ليسوا سلعة ولا بضاعة تعرضها على بسطاتك السياسية كلما شعرت بفراغ جيبك وإفلاسك من صفقاتك الخائبة, السوريون يا "فخامة الرئيس" وأنت القارئ الجيد للتاريخ -كما تحب أن تُظهر نفسك- كانوا وما زالوا وسيبقون أقدم حضارة عرفها التاريخ، وسيبقون طائر الفينيق الذي يحترق لهول النار ولكنه لا يندثر، بل يعود ليحيا من الرماد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة