من أخطر نتائج موجة الانتفاضات أو الثورات العربية التي بدأت مع الربيع العربي المشؤوم، وما زالت تتردد شعاراتها في أزمة السودان الحالية هو تفكيك المجتمعات وإهدار قيمة الإنسان.
بالإضافة إلى تحويل الكم السكاني إلى ركام من الفائض البشري؛ الذي يمثل عبئاً حضارياً واقتصاديا وإنتاجياً على دوله؛ من خلال إفقاد أجيال الشباب فرص التعليم، والصحة، والتربية الثقافية؛ التي تجعلهم مواطنين صالحين قادرين على تحمل مسؤولية تنمية مجتمعاتهم وتحقيق أهدافه.
بل إن الأمر قد تطور لتحويل قطاع كبير من الأجيال الشابة إلى معاول هدم، وتدمير وتخريب للحاضر، والمستقبل والماضي أيضا.
هذه الصراعات ذات المظهر السياسي هي في حقيقتها حروب ديموغرافية استهدفت تفكيك المجتمعات، وتحويل الإنسان إلى أداة، أو آلة عمياء تحقق أجندات دولية وإقليمية لا تدركها هذه الجحافل الجماهيرية الساذجة، التي تسير خلف شعارات قد لا تفهمها، أو لا تدرك مغزاها ومآلاتها.
تفكيك المجتمعات تحقق في سوريا والعراق واليمن وليبيا ثم السودان، وقبلهم الصومال من خلال تشويه البنية الديموغرافية لهذه الدول، وتحويلها إلى محرقة لأجيال الشباب؛ سواء من خلال القتل في الحروب الأهلية؛ أو تصديرهم كمرتزقة لخدمة قوى أخرى، أو دفعهم للهجرة عبر البحار، بما يعني فقدان الطاقات القادرة على تحقيق الطموحات في الحاضر، ومصادرة المستقبل من خلال القضاء على جيل كامل، ودفعه الهجرة، أو إلى التطرف والعنف والإرهاب، ومن ثم تحويله من كونه عامل بناء وتنمية وتطوير وتقدم إلى معول هدم وتدمير، وهذا الجيل كفيل بإخراج أجيال متتالية أكثر منه تخلفاً وعنفاً وتدميراً.
تفكيك المجتمع في الدول العربية التي مرت بها رياح الخريف العربي حدث كذلك على مستوى المكونات العرقية والدينية والمذهبية، حيث تم غرس بذور الشقاق والعداء بين الطوائف الدينية أو الجماعات العرقية، والمكونات القومية، أو التوجهات السياسية، بحيث لن تستطيع هذه الدول أن تعود إلى حالة التماسك الاجتماعي التي كانت موجودة من قبل أن تعبث بمصائرها تلك الشعارات.
قد لا تكون هناك مبالغة إذا قيل إن هذه الدول تحتاج من جيل إلى جيلين حتى تتعافى من آثار الحروب والصراعات الأهلية التي تم إشعالها، وتعظيم سعارها بشعارات دينية، ومذهبية، وطائفية، وحزبية، وعرقية، وقبلية.
وحتى تتم حالة التعافي المنشودة لا بد من ثورة ثقافية شاملة تتجاوز كل عمليات التخريب العقلي والثقافي التي شوهت الوعي الجمعي لجيل كامل.
وما حدث للإنسان في هذه الدول كان أشد بشاعة وعنفاً، فقد تحول جيل من الشباب السوري - الذي كان في مقدمة الشباب العربي وعيا وثقافة وتعليما - إلى مجموعات من المرتزقة التي تقاتل مأجورة في وطنها ومجتمعها، أو في دول أخرى، من ليبيا إلى أذربيجان، تبيع حياتها من أجل لقمة عيش مغموسة في الذل والهوان.
هذا هو البعد المجتمعي.. في كل الصراعات في الدول العربية لم يجد الاهتمام المطلوب من الباحثين والدارسين والكتاب، ومن الضروري أن يتم التركيز عليه ومعالجته بأسرع وقت ممكن من خلال مناهج التعليم، والدراما والسينما، والخطاب الديني، والإبداع الأدبي والثقافي، لأنه بدون معالجة هذه الآثار سيكون مستقبل تلك المجتمعات في خطر كبير، وقد تفقد أسس التكامل الوطني والقومي، والتماسك الاجتماعي، وقد تتفكك وتتشظى في قادم الأزمان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة