العشر الأواخر من شهر رمضان لها مزية على غيرها مما مضى من هذا الشهر الكريم.
وذلك لما اختصها الله تعالى بليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، والتي هي من خصائص هذه الأمة المرحومة، وإنما يشرف الزمان بشرف ما يكون فيه من فضل ونعمة، ونعمة هذه الليلة عل هذه الأمة لا توازيها نعمة خلا نعمة الإيمان.
ونظرا لأن فضلها مرتبط بإدراكها في طاعة الله وعبادته؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم حثنا على اكتسابها وإدراك فضلها بقوله وفعله؛ وذلك بالحرص على إحياء ليالي هذه العشر بالتبتل بين يدي الله جل وعز قياما وتهجدا وتلاوة للقرآن الكريم ومدارسة له، واعتكافا في المساجد للانقطاع للأعمال الصالحة، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام في العناية بهذه العشر ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعتكفنا مع النبي صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان، فخرج صبيحة عشرين فخطبنا، وقال: " إني أُريتُ ليلة القدر، ثم أُنسيتها - أو قال : نُسِّيتها – أي نساني الله تعالى إياها - فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر، وإني رأيتُ أني أسجد في ماء وطين ، فمن كان اعتكف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليرجع " قال أبو سعيد: فرجعنا وما نرى في السماء قَزعة – أي سحابة صغيرة - فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد، وكان من جريد النخل، وأقيمت الصلاة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين، حتى رأيت أثر الطين في جبهته"
فقد حث أصحابه وأمته على أن تتحرى فضل هذه الليلة في هذه العشرة، وفي تحديد هذه العشر تقريبٌ لزمن هذه الليلة المباركة حتى يحرص الناس عليها ويسهل عليهم إدراكها، وقد كان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك بنفسه فكان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، والاعتكاف يعني: الانقطاع لعبادة الله، والخلوة بالنفس مع الله تعالى، وترك شواغل الدنيا مهما قلَّت أو جلَّت، كما قال أنس رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهد رمضان قام ونام، فإذا كان أربعاً وعشرين لم يذق غمضا"
وروت عائشة رضي الله عنها قالت: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مِئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله"
وإحياء الليل بالقيام والتهجد وتلاوة الذكر الحكيم ومدارسة جبريل عليه السلام للقرآن الكريم، وشد المئزر كناية عن ترك الرَّفث في ليل الصيام الذي أباحه القرآن الكريم، وذلك لصرف وقته للعبادة ومناجاة الله التي لا يدرك فضلها في غير هذه الليالي، بخلاف متعة النساء فإنها مدركة في غير هذا الوقت، وهذا من باب ترك حظوظ النفس العاجلة لما ينفعها في الآجلة، وإيقاظ الأهل من أجل أن ينافسوا في هذا الخير الذي إن فاتهم لن يدركوه في غيره، وكل ذلك من أجل الحرص على إدراك ليلة القدر، وهو ما حرص عليه الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ولشدة حرصهم ورغبتهم في إدراك ليلة القدر تأسيا بالنبي عليه الصلاة والسلام أراهم اللهُ تعالى مرائي صالحةً، فلما قصوها على رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال: " أرى رؤياكم قد تواطأت في العشر الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها من العشر الأواخر"
وفي رواية" أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر"
بل حرصوا على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف معه عليه الصلاة والسلام، والانقطاع لله تعالى، فلما علم منهم النبي عليه الصلاة والسلام ذلك قال لهم: " من كان اعتكف معي، فليعتكف العشر الأواخر.
هذا هو حال هذه العشر الخواتم من شهر رمضان المبارك التي يشمر فيها المشمرون، وينقطع فيها المنقطعون لربهم سبحانه، وها نحن قد أدركناها وعلمنا كيف كان حال النبي عليه الصلاة والسلام وهو الذي قد غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وحال صحابته معه وهم الذين قد رضي الله عنهم وأرضاهم، فكيف حالنا ونحن المقصرين؟!
إن الذي ينبغي علينا هو أن نشمر عن ساعد الجد، ونجتهد في إحياء هذه الليالي بصالح العمل قياما وتهجدا وتلاوة للقرآن وغير ذلك من أعمال البر التي تتيسر لنا.
ولئن كان الاعتكاف في المساجد في هذا العام غير ممكن بسبب هذا الوباء الذي لا زال ينتشر ويتمدد، ويؤذي أقواما ويودي بآخرين، فإن من كانت نيته فعله لولا هذا الوباء الذي أوجب الاحتياطات الوقائية اللازمة؛ فإن الله يأجره عليه بنيته الصالحة التي يعلمها ربه سبحانه، كما ورد في الحديث " نية المؤمن خير من عمله"
فالحريص على إدراك هذه الليلة عليه أن يختلي بنفسه في جوف ليله ولو في غرفة نومه، فإن السر في الانقطاع لله جل وعلا والخلوة بالنفس مع الحق سبحانه، ولا ريب أنه إن اجتهد في العبادة والذكر والتلاوة في هذه الليالي؛ لا ريب أنه سيدرك قيام ليلة القدر لا محالة.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن قامها إيمانا واحتسابا ونسأله سبحانه العفو والعافية والمعافاة الدائمة إنه جواد كريم
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة