جماجم الشياطين شر موجود وعلى الشرق والغرب الاعتراف أولا بأن ثمة مشكلة يجب مواجهتها بكامل المسؤولية وخطوات ملموسة لتعزيز روح التسامح
فتح الإرهابي الأسترالي برينتون تارانت نار بندقيته على كل المصلين في المسجد، وصوّر مشهد القتل المروع وكأنه يلعب لعبة من ألعاب الفيديو، لا فرق بين ما فعله الداعشي الأبيض في نيوزيلندا عن كل دواعش الشرق الذين أيضاً قاموا بتصوير مشاهد القتل المرعبة وعملوا على بثها ونشرها، وكأنهم يمارسون حفلة من حفلات عبدة الشيطان.
الغرب الذي منه تتصاعد أدخنة كراهية المسلمين والمهاجرين عليه أن يتخذ إجراءات وقف هذه الدعوات، وإلا فإن الغرب سيتعين عليه أن يكرر مآسي ما سبق الحرب العالمية الثانية، فالأصوات الداعية للتطرف هي ذاتها التي دمرت العالم قبل عقود ليست ببعيدة
تشكل العملية ترجمة لخطابات التطرف والكراهية الآخذة بالانتشار في الغرب، هذا الخطاب القائم على رفض الآخر، من خلال اتخاذ موقف من اللاجئين، على ضوء العمليات التي نفذها متطرفون متشددون باسم تنظيم «داعش» في العواصم الأوروبية في باريس وبروكسل ولندن، وقد أثبتت مدونات الإرهابي عبر مواقع التواصل الاجتماعي انتماءه لفكر متطرف، وأن عمليته انتقامية ضد المسلمين وضد المهاجرين، وأنه مع مجتمع أبيض نقي في أوروبا ونيوزيلندا وأستراليا، وذهب أكثر من ذلك لاستحضار تاريخ الدولة العثمانية وحروبها في أوروبا في القرن السابع عشر.
وكان لافتاً للنظر إشادته بسياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد المهاجرين، وأن قدوته منفذ العملية الإرهابية التي وقعت في النرويج عام 2011، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام حقيقة نمو التيارات الشعبوية في الغرب، وتحولها إلى ظاهرة سياسية حملت عدداً من اليمينيين المتطرفين إلى سدة الحكم، فيما كادت أن تطيح بقيادات أحزاب معتدلة على ذات الخلفية؛ حيث كادت أنجيلا ميركل لمواقفها المعتدلة تجاه المهاجرين أن تفشل في الانتخابات الألمانية.
صعود الشعبوية في العالم الغربي المعاصر لا يعكس أزمة النخبة السياسية وعجزها عن تقديم حلول مقبولة للمشكلات التي باتت مجتمعاتها تتخبط فيها فقط، إنما يعكس أيضاً أزمة مجتمعية عميقة تتعدى معالمها ما هو سياسي إلى ما هو أنطولوجي وأخلاقي، إن الشعبويّة بصفتها ظاهرة سياسية تعبر عن وجود قلق هوية وانسداد في الأفق الأخلاقي يعيشه الإنسان الغربي المعاصر، الذي لم يعد يستطيع قبول الآخر المختلف والعيش معه، ولم يستطع التأقلم مع متطلبات عالم معولم ومفتوح، ليس فقط في وجه المعاملات الاقتصادية والمالية وإنما أيضاً في وجه حركات الهجرة الواسعة والتلاقي الثقافي.
فمن بين الأوتار الحساسة التي يلعب عليها الشعبويون وتر الهجرة التي يعتبرونها شبحاً أمسى يهدد الغرب (أوروبا والولايات المتحدة)، لنستحضر أن من بين أهم وأخطر الوعود التي قدمها ترامب مثلاً خلال حملته الانتخابية إقامة جدار عازل على الحدود الأمريكية المكسيكية لمنع تدفق المهاجرين المكسيكيين السريين.
مثل هذه المواقف نابعة من أيديولوجيات قومية لم يعد الشعبويون يخفونها، وهي أيديولوجيات لا ترغب في أن تمنح الآخرين الذين لا ينتمون إليها الحقوق الكاملة (العدالة والمساواة والديمقراطية والمشاركة السياسية)، لأنهم يمثلون من منظور قومي عنصراً سلبياً بإمكانه تهديد تلك البنية الأيديولوجيّة القومية وتهديد الهوية المشكلة منها.
وقد تساءلت سيلا بن حبيب في هذا الصدد: هل إعطاء الأجانب والمقيمين الحقوق نفسها التي للمواطنين يمكن أن يسهم في تفكيك الدولة القومية؟ أليس ينبغي على العكس من ذلك الاعتراف بأن البشر شخصيات أخلاقية لها الحق في الحماية من طرف القانون، وليس ذلك انطلاقاً من الحقوق التي يتمتعون بها كمواطنين أو أعضاء في مجموعة اثنية ولكن ببساطة كبشر؟
وتشير في هذا الصدد إلى ما كتبه مارك أوريل في تأملاته الذاتية: "إذا كنا نشترك في ملكة التفكير فإن ذلك يعني أننا نشترك في العقل، وإذا كان الأمر كذلك فهذا يعني أننا نشترك في القوانين، وإذا كان الأمر على هذه الحال فذلك يعني أننا كمواطنين نشارك في إدارة دولة، وإذا كان الأمر كذلك فإن العالم هو في الآن نفسه دولة.
المحصلة بين تصاعد خطاب الشعبوية في الغرب والآخر الإسلاموي في الشرق أن ذئاباً خرجت لتحمل مضامين الخطابات المحتقنة، لتؤكد أن الإرهاب لا دين له، فالداعشي المسلم يقابله داعشي مسيحي ويهودي، بل حتى اللادينيين سيحملون أسلحتهم ويقتلون ويفجرون، فالجماجم الملوثة لن ترتدع لطالما واصل اليمين المتطرف في الغرب إذكاء الكراهية والبناء عليها لتحقيق مكاسب سياسية، تماماً ما يحدث في الشرق عبر عقود من إذكاء الكراهية للآخر عبر عقائد منحرفة توّجها النظام الإيراني بالحكم، في دولة تصدر الكراهية عبر شعارات خمينية، والتي تحولت إلى سفك للدماء باسم الإسلام.
جماجم الشياطين شر موجود، وعلى الشرق والغرب الاعتراف أولاً بأن ثمة مشكلة يجب مواجهتها بكامل المسؤولية وخطوات ملموسة، لتعزيز روح التسامح ومعالجة الاختلالات الواقعة، والتي لن تعالجها الدعوات من المصلحين بمقدار ما سيصلحها وضع قوانين صارمة تلاحق دعاة الأفكار المتطرفة وتجتثها من جذورها، وهنا يأتي دور المؤسسات القانونية التي عليها أن تضع قوانين ضد دعاة التحريض والكراهية وعدم الاكتفاء بإصدار بيانات الشجب والاستنكار.
فالغرب الذي منه تتصاعد أدخنة كراهية المسلمين والمهاجرين عليه أن يتخذ إجراءات وقف هذه الدعوات، وإلا فإن الغرب سيتعين عليه أن يكرر مآسي ما سبق الحرب العالمية الثانية، فالأصوات الداعية للتطرف هي ذاتها التي دمرت العالم قبل عقود ليست ببعيدة.
نقلاً عن "البيان"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة