إن أخطر ما تفعله الحكومة القطرية حالياً، أنها تبذر للمستقبل محاصيل من الكراهية والتنافر بين شعبها وشعوب المنطقة
سأل أبو جعفر المنصور، أحد حكماء بني أمية، عن سبب زوال دولتهم، فقال: "أمورٌ كبيرة أوليناها للصغار، وأمور صغيرة أوليناها للكبار، وأبعدنا الصديق ثقةً بصداقته، وقرّبنا العدو اتقاءً لعداوته، فلم يتحوّل العدو صديقاً وتحوّل الصديق عدواً".
كأن التاريخ يعيد نفسه كنمط، وإن اختلف الحجم في ما يخص الحالة في الشقيقة قطر، فالتصعيد الإعلامي الذي قامت به في أزمتها مع شقيقاتها في الخليج العربي، كان صادماً أكثر من صدمة التصريحات التي قيل إنها مفبركة، وذلك الترامي على أعتاب عاصمة الملالي الفارسية، أو التعلّق بأستار إسطنبول لملء الفراغ الذي يبدو أنه قادم لا محالة، بنقل القاعدة الأمريكية، كان وأداً اختيارياً لكل وسائل نزع فتيل الأزمة، وتدارك الأخطاء الجسيمة في حق جيرانها، جرّاء سياستها الخارجية المنفلتة، كل هذا يؤكد لنا على حقيقة كونية ثابتة: أن من يخلق المشكلة لا يمكن أن يكون طَرَفَ حلّها.
إن أخطر ما تفعله الحكومة القطرية حالياً، أنها تبذر للمستقبل محاصيل من الكراهية والتنافر بين شعبها وشعوب المنطقة، رغماً عنهم، ليس من العيب أن يُخطئ المرء وتأتي حسابات الحقل غير حسابات البيدر، لكن الكارثة أن يُراهن دوماً على ذات الرهان الخاسر، وأن يظن أنّ بإمكانه تكرار نموذج آخر استثنائي.
مما رأيناه هذه الأيام، فإنّه لا يبدو أنّ هناك نيّة لدى الحكومة القطرية، للأسف، لتهدئة الأمور، أو بحث عن مخرج للمصالحة، فالتلاسن الإعلامي وصل مدى غير مسبوق، وتمادت قناة الجزيرة بفبركة أكذوبة انكشفت سريعاً، عن وجود سجون للتعذيب في جنوبي اليمن، تُشرِف عليها قوات التحالف، ثم تجرّأت كثيراً بنشر كاريكاتير صادم ومسيء للغاية، لخادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان، في وقاحة غير مسبوقة، ما تسبب في موجة غضب عارمة في الخليج عامة، لمكانة الملك سلمان، وسارعت بعده القناة لحذف الكاريكاتير، مدّعية أنّها "لم تقصد الإساءة لخادم الحرمين الشريفين، وما حدث من ربط لدى البعض، هو اصطياد بالماء العكر"!
إن أخطر ما تفعله الحكومة القطرية حالياً، أنها تبذر للمستقبل محاصيل من الكراهية والتنافر بين شعبها وشعوب المنطقة
هنا، من المهم الإشارة لبعض الإعلاميين الذين يتباكون على سقوط المهنية، ويعترضون على شدة الهجوم الإعلامي الخليجي على افتراءات إعلام قطر وسياستها الخارجية، فنقول لهم: لماذا لم نسمع أصواتكم، وقناة الجزيرة لمدة أكثر من 20 سنة، تُذيق جيرانها الويلات من التقارير المكذوبة والبرامج المشبوهة، والهجوم المبطّن وتلميع المعارضين، واستضافة الإرهابين، وتعمد نقل كلامهم حرفياً بتكفير الحكومات القائمة، دون قطع أو مونتاج من باب «الحياء» و«الذوق» على الأقل.
هذه القناة، والتي تتصرّف وكأنها حكومة بحد ذاتها، لم تترك أحداً، عدا قطر طبعاً، لم تسلّط عليه آلتها الجهنمية، وقدرتها المتفرّدة في الكذب ولفّ الحقائق، ومارست «فرعنة» غير مسبوقة لتهييج الشعوب ضد حكوماتها، وتعمدت التركيز على المملكة العربية السعودية، باستضافة كل مناوئيها من شُذّاذ الآفاق وعرّابي القتل ومنظّري الفتنة، كسعد الفقيه ومحمد المسعري وابن لادن والظواهري والزرقاوي، بينما كانت تعرض مطالبة عزمي بشارة للشباب السعودي لكي يثور على حكومته، الجزيرة تظننا ننسى سجلها الأسود، وتحاول تغيير تكتيكها الحالي، باستهداف الإمارات، وعدم المساس بالمملكة، من أجل تحييدها في الحرب الإعلامية، وهو تكتيك فاشل؛ لأن الأوراق أصبحت مكشوفة حتى للأعمى.
من حق قطر أن تبحث لها عن دور ريادي، لكن بالطريق السليمة، وليس بزعزعة استقرار المنطقة، ودعم الجماعات الإرهابية، وإيواء رموز جماعة الإخوان المسلمين، وتمكينهم من التأثير في تشكيل وتوجيه السياسة الخارجية.
الخلاف مع الشقيقة قطر وأشقائها، كما قال الدكتور أنور قرقاش: "ليس خلافاً حول استقلالية التوجه الوطني، بل اعتراضاً على التحريض والتمويل وتقويض الاستقرار، وشتان الفرق بين هذا وذاك"، هنا، من المهم الإشارة إلى ما نقلته صحيفة The Weekly Standard الأميركية، عن دينا باول نائبة مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض، عن اتفاق الرياض، قولها: «كان إنجازاً لنا في الولايات المتحدة، أن نجعل حكومة قطر توقع على هذا التعهد، فقطر إمارة صغيرة في الجزيرة العربية، كانت دوماً متمردة على أي ترتيبات تتصل بمكافحة الإرهاب".
حُبّنا لقطر وأهلها، لا يعني أن نسكت على النهج العدائي لسياسة حكومتهم الخارجية إلى ما لا نهاية. صَبَرَ أهلُ الخليج أكثر من 20 عاماً، حفاظاً على حقوق الأخوّة ووشائج المودة، على أمل أن تتوقف تلك المراهقات السياسية يوماً ما، لكنها لم تتوقف، ولا يبدو أنها ستتوقف، وما دامت الحكومة القطرية قد اختارت خيار التصعيد للأزمة، فإنّه لا حل في الأفق، ما لم تحدث مراجعة كاملة لسجلّها الخارجي المليء بالتدخلات في شؤون الآخرين والتآمر عليهم.
هو ذات الفكر المستهجن الذي لا يرى أنّ بإمكانه أن ينجح إلا بخسارة جميع من حوله، وهذا ما لن يحدث، فخسارة قطر ستكون كبيرة، ما لم تراجع حساباتها، وتتوقف عن لُعبة المماطلات، واستغلال المساحات الزمنية للتملّص "الدائم" من تعهداتها "الدائمة".
لم يُطالب أحدٌ أن تكون قطر تابعة لأحد، ولم يعترض أحدٌ على أن تختار توجّهها الخاص، ولكن لا يعني ذلك أن تكون نشازاً وخنجراً في خاصرة شقيقاتها، أمنُ الأوطان ليس محل مقامرات، ولا مجال مغامرات، ودول الخليج وحكوماتها وشعوبها، لم تطلب من حكومة قطر معروفاً، كل ما طلبته، هو أن "تكفّ شرّها عنها".
نقلا عن "البيان"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة