القناعة بالمسؤولية عن إيمان الناس بالدين الإسلامي أو عدم إيمانهم به قد تبدأ عند المقتنع بها
إذا تأملنا في الأصول الفكرية لخطاب التطرف الديني العنيف بكل أشكاله، وجماعاته، وفي مختلف بقاع العالم الإسلامي؛ نجد أن جذوره تعود إلى مجموعة من المُسلَّمات التي تم غرسها في عقول المسلمين كباراً وصغاراً، واستقرت في نفوسهم، وصارت من البديهيات التي لا تحتاج إلى إثبات أو دليل، ولا تقبل النقاش أو المراجعة، هذه المُسلَّمات أو جذور الأفكار سكتت عنها المؤسسات الدينية الكبرى، ولم تركز عليها وتوليها البحث والتمحيص الواجبين، ولم يتحول نقاشها إلى موضوعات لخطبة الجمعة، أو دروس الوعظ، أو برامج الفضائيات، إما لعدم الانتباه إليها، أو الخوف من العوام الذين قد تصدمهم مناقشة هذه المسلمات، وتهز ثوابت الإيمان عندهم، ومن ثم ينصرفون عن العلماء، ويفقد العلماء مصداقيتهم… في كل تلك الأحوال هناك حالة خوف من مناقشة هذه المسلمات، أو جذور الأفكار وهو ما مهد الطريق أمام خطاب التطريف الديني العنيف لينتشر ويتوسع مع توسع وسائل تداول المعلومات عبر وسائط التواصل الاجتماعي والفضائيات.
كان انتشار الإسلام بالقدوة والمثل الأعلى، لأن أولئك المسلمين الأوائل لم يكونوا يؤمنون بمسؤولية عن إيمان الآخرين أو عدم إيمانهم، كانوا يعاملونهم كبشر وفقط، ويحترمونهم كبشر وفقط، وشعارهم الدائم "لكم دينكم ولي دين"، بذلك انتشر الإسلام
وأول هذه المسلمات هذا السؤال: هل المسلم مسؤول أمام الله عن إيمان أو عدم إيمان الآخرين؟، بعبارة أخرى ماهي حدود مسؤولية المسلم عن تبليغ الدين للآخرين وإقناعهم به؟، وماذا يجب عليه أن يفعل إذا رفض الآخرون الإيمان بدينه ونبيه وقرآنه؟ هل ينبغي عليه أن يتعامل معهم بعد ذلك؟ أم يقاطعهم ويعتزلهم؟ أم يؤذيهم ويزعجهم؟ أم يقاتلهم؟…إلخ.
هذا السؤال المحوري كانت الإجابة عليه سبباً في ظهور الجماعات المتطرفة والعنيفة والإرهابية، التي تنسب نفسها للإسلام؛ من جماعات التوقف والتبين إلى جماعات التكفير والهجرة إلى داعش وبوكوحرام وما شابههم، كل جماعة من هذه الجماعات انطلقت من إجابة محددة عن هذا السؤال، وهي أن المسلم مسؤول مسؤولية كاملة عن إيمان الآخرين وعدم إيمانهم بدينه وقرآنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، لذلك نشأت حالة الكراهية للآخرين، والعداء لهم، ثم الاعتداء عليهم، واستحلال دماءهم، وتفجير أماكن تواجدهم وبيوت عبادتهم.
بتأثير من الخطاب الديني العام الذي يُلقى في أذهان المسلمين ليل نهار في خطب الجمعة، وفي الدروس الدينية والمدارس والجامعات، نشأت أجيال متتالية من الشباب تؤمن بحمل مسؤولية شخصية، فردية وجماعية عن العالم، عن جميع البشر، وأنه لابد من إقناعهم بالإسلام، هذه الحالة خلقت نفسية تشعر بالتقصير لعدم إيمان العالم بالإسلام بصورة كاملة، وإن هذا ناتج عن كراهية هؤلاء الذين لم يؤمنوا للحق، وكراهيتهم للنور، وجحودهم للرسالة الخاتمة، ورفضهم لعبادة الخالق الأحق بالعبادة، وهذا يولد حالة كراهية لغير المسلمين، وبغض لهم قد يصل إلى حد إزهاق أرواحهم لأنهم في نظر هؤلاء كالأنعام بل هم أضل.
القناعة بالمسؤولية عن إيمان الناس بالدين الإسلامي أو عدم إيمانهم به قد تبدأ عند المقتنع بها، بتبرير أنه يحمل للناس الخير، ولكنه ينتهي بكراهيتهم عندما لا يؤمنون بما يُطلَب منهم الإيمان به، لذلك كانت القناعة بهذه المسؤولية مقدمة أساسية لمشاعر الكراهية للآخرين؛ التي ينتج عنها سلوك عنيف عندما تضاف إليها المسلمات الأخرى التي سوف نعرض لها في الحلقات القادمة، مثل الولاء والبراء.
هذه القناعة ناتجة عن خطاب ديني تاريخي في المساجد والمدارس والجامعات، يقدم شخصيات تاريخية على أنها أفنت أعمارها في نشر الدين؛ دون أن يقدم السياق الذي تم فيه نشر الدين، وأن انتشار الدين تم بصورة تلقائية غير عمدية وغير مباشرة، كان خلالها المسلمون قدوة ومثلاً أعلى في سلوكهم ونظافتهم وأمانتهم، وانضباطهم في العمل، وصدقهم في البيع والشراء، وعطفهم وإيثارهم لعمل الخير، كان انتشار الإسلام بالقدوة والمثل الأعلى، لأن أولئك المسلمين الأوائل لم يكونوا يؤمنون بمسؤولية عن إيمان الآخرين أو عدم إيمانهم، كانوا يعاملونهم كبشر وفقط، ويحترمونهم كبشر وفقط، وشعارهم الدائم “لكم دينكم ولي دين”، بذلك انتشر الإسلام، هذه الصورة لا تحضر كثيراً في الخطاب الوعظي المعاصر، وهي التي من خلالها آمن أكثر من 80% من أجداد المسلمين في عالمنا اليوم في آسيا وإفريقيا.
هذه الصورة التي تقوم على التسامح والتعايش، وتقديم القدوة والمثل لا تحضر في الخطاب الديني في المساجد والمدارس والجامعات، وإنما يحضر الذي كان يحج عاما ويغزو عاما، وهي خرافة لم تحدث، ويحضر الذين مزقوا الأعداء، وشتتوا شملهم وفرقوا جمعهم، وكأن المسلمين الأوائل لم يكن لديهم إلا القتال والحروب، ولم يبنوا حضارة، أو لم يترجموا علوم غير المسلمين، وينقلوا إبداعات الأمم السابقة، ويتاجروا ويتعاملوا مع جميع عقائد وأديان الأرض، ولم يتجاوروا في معظم مدن العالم الإسلامي مع اليهودي والمسيحي واليزيدي والصابئي والمجوسي والهندوسي والبوذي، هذه العقائد جميعها كان ومازال الذين يؤمنون بها مكوناً أساسياً في جميع المجتمعات الإسلامية على مر القرون قبل ظهور هذه الجماعات المتطرفة والعنيفة والإرهابية في النصف الثاني من القرن الأخير.
هذه القناعة بالمسؤولية عن إيمان الآخرين أو عدم إيمانهم، وما ترتبه من كراهيتهم إذا لم يؤمنوا، ثم عقابهم أو قتلهم بناء على تلك الكراهية؛ هذه القناعة لم يمر عليها حقائق قرآنية تحدد مهمة الرسول صلي الله عليه وسلم في البلاغ والتذكير دون مسؤولية عن نتائج ما بلغه أو ذكر به ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22)﴾. ( سورة الغاشية )، أو قوله تعالي {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}.. (البقرة : 272)، أو قوله تعالى “وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” (الكهف: 29). هذه مجرد أمثلة من الآيات التي يذخر بها القرآن الكريم، والتي تنفي عن المسلم أية مسؤولية عن إيمان الناس بالدين من عدمه. القرآن الكريم يحدد مسؤولية الإنسان في نفسه فقط، ثم من يعول بالقدوة والمثل الأعلى، وأن يعامل الناس بالحسنى، ويضعها القرآن بصورة واضحة وقاطعة “وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا” (البقرة: 83).
إذا كانت هذه المسلمة أو هذا الأصل الفكري لخطاب الكراهية والتطرف الديني العنيف، وكانت هذه القناعة جذر من جذور المأساة التي يعيشها الخطاب الإسلامي، فما العمل؟ الحقيقة التي لا تقبل الجدل أن المؤسسات القائمة على الخطاب الديني، والتعليم الديني في العالم الإسلامي تحتاج إلى أن تبدأ في تقديم رؤية واضحة للإجابة عن هذا السؤال المحوري، هل المسلم مسؤول عن إيمان الناس بالإسلام من عدمه؟ هذه الإجابة تحتاج إجماعاً بين أهل العلم من مختلف المذاهب والمدارس الفكرية، وأن تتحول هذه الإجابة إلى مكون أساسي في المنهج التعليمي في المدارس والجامعات، وتتحول كذلك إلى موضوع للخطاب الديني في المساجد والفضائيات، بذلك يمكن تفكيك أول أصل من أصول خطاب التطرف الديني العنيف…وفي الحلقة القادمة نناقش أصلاً آخر من تلك الأصول.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة