يمكن للمرء أن يحدّد ثلاث جهات من كبار المتاجرين بالقضيّة الفلسطينيّة، تركيا وإيران، والقيادة الفلسطينيّة المراوغة في الحِلّ والترحال.
لعلّنا لا نبالغ أو نُهوّل إن قلنا إنّه ما من قضيّة عادلة وقعت بين أيدي متاجرين غير أخلاقيّين مثل القضية الفلسطينيّة، والتي عانت ولا تزال من التدخُّلات اﻹقليميّة والمتاجَرات الدوليّة، ما قدّر لها أن تعاني. وفيما الوقت يمرّ تخسر القضيّةُ الكثيرَ من عدالتها، وتتضاءل فرص الحلّ، وتكاد طاقة النجاة أن تُغلَق مرّةً وإلى ما شاء الله.
عبر ثمانية عقود، سال الكثيرُ من الحبر على اﻷوراق، وبُحَّت الأصوات محذِّرة ومنذِرة من المرائين واﻷفّاقين الذين جعلوا من القضيّة مَحَجًّا زائفًا. وعِوَضًا عن أن تضحى حجر زاوية في مسيرة نضال حقيقيّة، أضحت حجر عثرة كلّ من يسقط عليه يترضّض، ومن سقط هو عليه يسحقه.
باختصار غير مُخِلّ، يمكن للمرء أن يحدّد ثلاث جهات من كبار المتاجرين بالقضيّة الفلسطينيّة، تركيا وإيران، والقيادة الفلسطينيّة المراوغة في الحِلّ والترحال، وجميعهم ينظمهم عقد واحد من العزف النشاز والمغلوط على أوتار الشعب الفلسطينيّ الذي دفع أكلافًا عالية وغالية حتّى الساعة.
دعونا نبدأ من عند تركيا، أُسّ الداء وسبب البلاء الأعظم عربيًّا وشرق أوسطيًّا من القديم إلى الحديث.
ربّما يضيق الوقت المتاح للعودة إلى الماضي البعيد، ولهذا ندلّل على الرياء التركيّ بمشاهد حاضرة أمام اﻷعين وقريبة من اﻷذهان.
وسط أزمة تفشّي فيروس كوفيد- 19 المستجَدّ كانت وكالة الأنباء التركيّة تطير خبرًا باللغة العربيّة مفاده: "إن هناك مساعدات تركيّة طبّيّة تصل إلى فلسطين بنوع خاص".
على الجانب اﻵخر، وفي نسخة الخبر باللغة الإنجليزيّة كان العنوان يُفيدُ بأنّ: "تركيا تعطف على فلسطين مثل بقيّة الدول اﻷخرى التي قدَّمتْ لها مساعدات".
ولعلّ مسيرة التدليس والأكاذيب التركيّة تتّضح بأسوأ صورة في معالم وملامح الآغا العثمانيّ الذي يتباكى على القدس جهرًا، فيما شراكته الاقتصاديّة واﻷمنيّة، الاستخباراتيّة والعسكريّة مع إسرائيل لا تغيب عن اﻷعين.
لم تقدّم تركيا للقضيّة الفلسطينيّة سوى الكلمات الطنّانة والعبارات الرنّانة، فأضحت كقرع الطبول اﻷجوف، اﻷمر الذي وظّفته على نحو خاصّ لخدمة التيّار الإسلامويّ في إطار مخطّط حزب الحرّيّة والعدالة بنوع خاص، ولا سيّما إعادة تخليق الإمبراطوريّة العثمانيّة، وفيما اﻷجيال الفلسطينيّة السابقة ظلَّتْ تأكل الحصرم، بدا وكأنّ أسنان اﻷبناء هي من تحصده في حاضرات أيّامنا.
من يخبر الآغا العثمانيّ المُعتَلّ والمُختَلّ بأنّ الرايات الفاقعة واﻷصوات الزاعقة لا تغيّر حقائق التاريخ، ومنها أنّ تركيا أول دولة اعترفت بإسرائيل كوطن قوميّ لليهود في مارس/ آذار من عام 1949 ضاربة عرض الحائط بحقوق الشعب الفلسطينيّ.
من الزّيْف التركيّ إلى نظيره اﻹيراني، وإذ يتلاعب العثمانيّ الممجوج بأوتار القوميّات، فإنّ الملالي ما تركوا وترًا دوجمائيًّا إلا وعزفوا عليه عزفًا أبوكريفيًّا منحولاًطوال أربعة عقود، هي عمر الثورة غير المباركة.
ما الذي قدّمتْه إيران للقضيّة الفلسطينيّة سوى تعميق الفتنة بين صفوف الفلسطينيّين، والمراوغة كالثعلب في ساحات الوغى.
خلال لقاء أخير لوفد من حركة حماس، كان مرشدُ الثورة خامنئي يُغَرِّد بالقول: "إنّ قضيّة فلسطين تُعَدّ اليوم واحدةً من أهمّ القضايا في العالم اﻹسلامي، وهي مسألة تتصدَّر كلّ القضايا السياسيّة للمسلمين بغضّ النظر عن طوائفهم أو عِرْقهم أو لغتهم.
أيّ مزايدات فارغة عن المضمون الحقيقيّ موصولة بمواقف إيران العلنيّة، فيما علاقاتها الحقيقيّة بإسرائيل معروفة منذ زمان وزمانَيْن .
عبر أربعين سنة لا نجد في سِجِلاّت التاريخ مساندة حقيقيّة واقعيّة من طهران وملاليها للقضيّة الفلسطينيّة، سوى نجاحاتها في تكريس الأيّام الهلاميّة لنصرتها، والتمسُّح باسمها عبر إنشاء فيلق القدس، الكذبة الأكبر والأخطر في سيرة ومسيرة الحرس الثوريّ اﻹيراني، الفيلق الذي لم يطلق رصاصة واحدة على إسرائيل طوال العقود المنصرِمة، فيما وَجَّه إرهابيّيه إلى دول الشرق اﻷوسط، وعبر وكلاء حروب آثروا خيانة أوطانهم، ويومًا سوف يُصدِر التاريخُ حكمَه عليهم.
قدَّمتْ طهران للفلسطينيّين أدوات التسارع والتنازع، من خلال دعمها للتيّار الراديكاليّ المتمثّل في كافّة جماعات الإسلام السياسيّ التي وُلِدتْ من رَحِم جماعة اﻹخوان المسلمين اﻹرهابيّة.
لم تمدّ إيران يومًا يدًا للمساعدة لفصيل فلسطيني بعينه إلا وكان هدفها اﻷبعد هو التسبّب في إحراج دول عربيّة أخرى، دول تعمل بعزم وتفكّر بحزم، من أجل إنهاء الانقسام الفلسطينيّ، لا سيّما وأنّ كلّ بيت ينقسم على ذاته يخرب، وكلّ مملكة تنقسم على ذاتها لا تثبت.
كان هدف إيران من المزايَدة الجوفاء على القضيّة الفلسطينيّة دائمًا وأبدًا هو إحداث إصابات في النسيج الاجتماعيّ للدول العربيّة من خلال الرهان على الدهماء والذين ليس لديهم علم من كتاب عن مؤامرات إيران المستقرّة وخططها المستمرّة لتخريب وتفكيك المنطقة وحتّى يتحقّق الحلم الخومينيّ اﻷكبر، بأن يرى الرايات اﻹيرانيّة ترتفع من الرياض إلى القاهرة، ومن بيروت إلى دمشق، ومن بغداد إلى صعناء.
يمكن للمرء أن يتفهّم منطق المزايدة على الفلسطينيّين من غير تقديم حل، وتوريطهم يومًا تلو اﻵخر، وبما لا يفيد في التوصُّل إلى حلّ عادل، بل استخدام القضيّة في دعم سياسة المحاور الإقليميّة وإصابة أدوار الآخرين التي تقدّم خدمات جليلة للقضيّة في مقتل إن قُدّر لهم.
لكن ما لا يستطيع المرء أن يتفهّمه عقلاً أو نقلا، هو المزايدة والمتاجرة من قِبَل بعض المسؤولين الفلسطينيّين أنفسهم في سياق المزايدة الكاذبة والرفض المقنع لما يمكن أن يفتح أبواب الحلّ.
منذ اتّفاقيّة كامب ديفيد وهناك حقيقة لا مراء فيها، وهي أنّ غالبيّة قيادات الصفّ الأوّل من الفلسطينيّين، تتهرّب من أيّ استحقاقات جدّيّة أو جذريّة يمكنها أن تنهي أزمة الشعب المحكوم عليه بالألم والمعاناة طوال سنوات اﻷزمة، اﻷمر الذي يطرح علامة استفهام: "هل من مصالح أهمّ من صالح الوطن تخشى معها تلك القيادات التوصّل إلى حلّ وإنهاء حالة الصراع والمواجهة العسكريّة صباحَ مساءَ كلّ يوم؟
الشاهد أنّ ما رأيناه من القيادات الفلسطينيّة مؤخَّرًا، وعلى الجانبَيْن المتصارعَيْن يكاد يدعو الباحث المحقّق والمدقّق إلى القول بأنّ كلَيْهما وجهان لعملة واحدة، ففيما البعض ولّى وجهه شطرَ إيران، رأينا الآخر يمضي نحو أنقرة حيث السلطان المتوهِّم، وكأنّه هو من يحمل همّ استنقاذ القضيّة أمس واليومَ وغدًا.
المتاجَرة بالقضيّة تبيّن لنا أن هناك مفارقة شاسعة بين قيادة تسعى إلى الحلّ والسلام، وأخرى تسعى إلى التعقيد والدمار.
المتاجرة بالقضيّة الفلسطينيّة أمر لا يفيد، والتربّح من ورائها مادّيًّا ودعائيًّا شأن لا يتناسب وقدسيّة القضيّة ومقدّساتها.
ختامًا، يمكننا القطع بأنّ العالم لم يعدْ غافلاًعن الفرق الحقيقيّ بين الصادقين وبين المرائين. وسوف يقول التاريخُ، ومن جديد، كلمته للتفريق بين هؤلاء وأولئك.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة