"الحبل السري".. سوريون في مرمى القناص ينتصرون لإرادة الحياة
في المشهد الأخير من الفيلم يواصل القناص في عمق الصورة رمي الرصاص على سيارة الزوج، فيما يتصدر الصورة مشهد كيس البرتقال.
يقارب فيلم "الحبل السري" للمخرج السوري الليث حجو والكاتب رامي كوسا، معاناة السوريين في أحد الأحياء المحاصرة، من خلال حكاية زوجين تفصلهما بندقية قناص عن بقية أفراد الحي، ورغم تكيف الزوجين مع حالة العزل القسرية التي يعيشانها، إلا آلام المخاض المبكر الذي يصيب الزوجة، يضع الاثنين في مواجهة بندقية هذا القناص بعد أن منعت رصاصته وصول القابلة الى الأم.
الفيلم الذي حصد جائزة أفضل سيناريو في الدورة الثامنة لمهرجان "Festival du Court-Métrage d’Auch" التي اختتمت فعالياتها في فرنسا يوم السابع عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، نجح منذ مشاهده الأولى في إثارة انتباهنا وتعاطفنا مع محنة الزوجين في ظل الحصار والتماهي معهما في الصراع الذي يخوضونه. إذ يفتتح الفيلم بمشاهد عديدة لجزء من المعاناة التي تعيشها العائلة، وتكيفهم مع واقع أمر العزلة التي فرضها عليهم القناص، فالزوج يلف سيجارته بورق دفتر الهواتف، والزوجة استبدلت صنبور الماء بأنبوب يتدلى من زجاجة بلاستيكية، وينزل منه خيط من الماء تغسل به وجهها قبل أن يذهب الماء نفسه إلى وعاء ليستخدم في أغراض أخرى، ستقص المرأة شعرها لتوفير ماء غسيله، وتعيد خياطة ملابسها للطفل القادم وسيحاول الرجل قضم بطاريات الراديو على أمل أن يمد في عمرها، وسيسعد برغيف خبز قادم من جاره حتى لو مزقته رصاصة القناص.. كل تلك المشاهد تمر سريعة في الفيلم لتدفع الحدث إلى حدثه المحفز، حيث تصيب الزوجة آلام الولادة المبكرة، ولا يستطيع الزوج نقلها إلى المستوصف لتلد، أو إحضار القابلة إليها، وسرعان ما تتحرك القصة في مستوى صاعد نحو الذروة حيث يقوم الرجل بتوليد زوجته بناء على تعليمات عن بعد تأتيه من القابلة، على إيقاع صراخ الأم وصليل رصاص القناص.
ونتيجة لهذه الذروة سيأتي الحل في النهاية بولادة الطفلة، في مشهد يصلح أن يكون نهاية تقليدية لأحداث الفيلم يمكن التنبؤ بها بسهولة، وهو الأمر الذي يتجنبه سيناريو الفيلم، إذ يبدي وعياً بفكرته الأصلية وهي صراع إرادة الحياة مع إرادة الموت القادم من فوهة بندقية القناص، فيقدم حلاً درامياً إبداعياً لا يخلو من التهكم، وذلك عبر حدثين متزامنين، فيدفع الزوج بسيارته إلى مرمى بندقية القناص حيث يشغل هذا الأخير برميها بالرصاص، فيما تقوم الزوجة بإرسال كيس من البرتقال إلى جارتها في الضفة الأخرى هدية قدوم الوليد الجديد.
تنجح حلول السيناريو والإخراج في تلطيف التوتر في مشاهد الفيلم باللجوء إلى الفكاهة، ويستولي على اهتمامنا عبر شخصيات الحدث الرئيسية، إضافة إلى بندقية القناص والحبل والسيارة المعطلة ورغيف الخبز التي شكلت شخصيات رئيسية وثانوية في الحكاية، ولعبت دوراً في تصاعد الحدث فيها.
الفيلم لا يؤكد تميزه من النص الظاهر وحسب، وإنما أيضاً من قدرته على إيجاد التوازن بين قدرته على توليد التوتر الدرامي وبين متعة فك رموز المعنى الذي يختبأ في حنايا النص الظاهر ويطوقه، وفي تحقيق هذا التوزان يكتسب "الحبل السري" مشروعيته في مقاربة الحرب السورية، التي شكلت موضوعاً لعدد كبير من القصص المتداولة سواء في وسائل الإعلام المختلفة، أو عبر ما يتناقله الناس عن شهود عيان.
ويحقق النص المختبئ بين سطور الحكاية الظاهرة والمعروفة أغراضاً فنية وبلاغية ترتبط على نحو وثيق بسياق العمل وحواراته، ويخلص إليها المشاهد استناداً إلى مرجعيات تتعلق بثقافته وتجاربه الحياتية وظرفه المحيط، وذلك من خلال تلازم التلفظ التخيلية مع التلفظين الظاهري والمشهدي في شريط الفيلم. فإلى جانب التلفظ الظاهري الذي يمكن أن نلتقطه على سبيل المثال من خلال محاولة اقناع القناص بالسماح للزوجة الحامل أو القابلة بالعبور للضفة الثانية، يقول الزوج للقناص: "أنا هأقطع الطريق وأنت وضميرك.. وأنت أكيد مش هتقوص على امرأة حامل"، لكن هذا الأخير يواصل رمي الرصاص، بعدها يخاطبه الزوج: " نحن جماعة متعيشين وعلى باب الله، وأنت تعرف ما معنا سلاح.. فمن شو خايف" فيأتيه جواب القناص برصاصة.
التلفظ في عبارتي الزوج يتجاوز ظاهره، نحو أبعاد تلميحية تخييلية، من معانيهما على سبيل المثال: "القناص الذي مهنته الموت، لا يمكن أن يفهم لغة الحياة"، و"وحدهم الأبرياء من يقتلون في هذه الحرب".
أما الجانب المتعلق بالتلفظ المشهدي فسيظهر، على سبيل المثال، حين تصيب بندقية القناص رغيف الخبز المربوط إلى الحبل الواصل ما بين طرفي الحي الذي تقسمه بندقية القناص، في ثقافتنا الشعبية رغيف الخبز هو التعبير عن المعيشة، وفي مصر يسمون الخبز (عيشاً)، وغالباً ما يستخدم الخبز كجزء من عبارات تدلل على التعايش والوثوق بالآخر والأمان معه، فيقال "جمعنا الخبز والملح"، ونقول "نضع الخبزات على الجبنات" في دعوة للشراكة الحياتية أو المهنية.. وبالتالي لا يمكن للمشاهد الذي يدرك معنى الخبز على هذا النحو إلا أن يتخيل أمام هذا المشهد، مشهداً موازياً للحرب التي تستهدف معيشة السوريين والتعايش بينهم والشراكة في وطنهم.
وفي المشهد الأخير من الفيلم يواصل القناص في عمق الصورة رمي الرصاص على سيارة الزوج، فيما يتصدر الصورة مشهد كيس البرتقال الذي ينتقل إلى من ضفة إلى أخرى رغم الرصاص، ستحيلنا هاتين الصورتين، إلى ثالثة تخييلية نرى فيها السوريين وهم ينتصرون لإرادة الحياة ويشقون طريقهم إليها وسط الدمار والموت.
ولكن هل وصلت هذه المعاني إلى لجنة تحكيم المهرجان الفرنسي "Festival du Court-Métrage d’Auch" التي منحت الفيلم جائزة أفضل سيناريو..؟!
بالغالب وفرت نشرات الأخبار مرجعية لفهم هذه الدلالات، ولكنه كان بوسع أعضاء لجنة التحكيم أيضاً أن يضعوا دلالاتهم الشخصية لرموز التلفظ المشهدي على الأقل في "الحبل السري"، بناء على مرجعياتهم الثقافية والحياتية، فالرصاص في كل ثقافات العالم لا يعني إلا الموت، وصرخة الطفل الوليد وخضرة الأشجار وثمارها تبقى رمزاً للحياة.
فيلم "الحبل السري" من تمثيل نانسي خوري، يزن الخليل، ضحى الدبس، جمال العلي، وسناء سواح، وهو من إنتاج الاتحاد الأوروبي عبر منظمتي "مدني" و"البحث عن أرضية مشتركة" بالتعاون مع شركة "سامة" للإنتاج الفني والتوزيع.