لم يكن سهلا على تركيا رسم سياستها السورية الجديدة التي أعلنت عنها وبدأت بتنفيذها قبل أشهر.
بقدر ما كان هناك توازنات سياسية وأمنية واجتماعية داخلية فرضت هذا التحول على قيادات حزب العدالة والتنمية في السلطة كان هناك الكثير من الأسباب والدوافع الإقليمية والدولية المؤثرة في القرار التركي أيضا.
هل حسمت تركيا موقفها وأقرت الخطوات التي ستعتمدها لناحية تصورها الجديد في استراتيجية التعامل مع الملف؟ لا طبعا. هي ما زالت تبحث عن الوسائل والفرص والممكن تحقيقه، لأنها تدرك اليوم أن قرارها لوحدها لن يكون كافيا.
هناك أكثر من لاعب سوري وإقليمي عنده ما يقول وله ما يريد. وهناك حراك سياسي ودبلوماسي لعواصم وقوى فاعلة يحتم على أنقرة الإصغاء إلى ما تقوله . وهناك انسداد في سياسات وقرارات منصات طرحت نفسها كلاعب وحيد ممسك بخيوط اللعبة، ثبت فشلها وعجزها عن تحقيق أي اختراق حقيقي يساهم في حلحلة الأزمة التي تنتظر الانفراجة منذ أكثر من عقد.
تدرك أنقرة مثلا أن الحوار الفعلي مع دمشق يتطلب وجود الرغبة الحقيقية في ذلك وأن هدف التطبيع لا بد أن يكون مواكبا لتنازلات ثنائية متبادلة في قضايا سياسية وأمنية عالقة. لكنها تعرف أيضا أن التفاهمات التركية السورية لن تكفي لوحدها، طالما أن هناك الكثير من اللاعبين المؤثرين بالاتجاه الإيجابي أو السلبي في هذا المسار الجديد.
التفاوض بين أنقرة ودمشق لا بد أن يواكبه كذلك قراءات إقليمية في قضايا مشتركة تعنيهما وتستدعي التفاهم حولها أيضا، منها الاقتصادي والاستراتيجي والأمني، وربما هذا هو السبب الأهم الذي يقف حجر عثرة في تجاوز الخطوة الأولى الأصعب والأعقد بينهما.
منصة أستانة الثلاثية التي جمعت تركيا وروسيا وإيران حاولت أن تلعب هذا الدور فلم تصل إلى نتيجة بسبب التوازنات وتضارب المصالح لشركاء الطاولة أنفسهم. كذلك فعلت طاولة سوتشي الثنائية التركية الروسية لكنها عجزت هي الأخرى وانتهى دورها عند نقطة محددة فشلت في تجاوزها بسبب حسابات وتوقعات خاطئة للطرفين. المحاولة الجديدة هي مع الطاولة الرباعية التي جمعت أقطاب أستانة ودمشق تحت سقف واحد بتشجيع ودعم الكثير من العواصم فهل سيكفي ذلك؟ الإجابة قد تكون عند الوسطاء ربما. لكنها مرتبطة كذلك بمدى استعداد كلا الطرفين التركي والسوري لتبني سياسة النفس الطويل والبقاء أمام طاولة الحوار والتفاوض. وهي مرتبطة حتما بقدرتهما على مواجهة من يهمه عرقلة هذه المحاولة ومن لا يجد مصلحة له فيها.
يدور الحديث منذ أسابيع حول وجود شروط تركية سورية مسبقة قبل الذهاب إلى الحوار والتطبيع. قد تكون هناك مطالب وأهداف محددة لكل طرف حملها إلى طاولة التفاوض وهذا بين القواعد المتعارف عليها سياسيا ودبلوماسيا. لكن الإصرار على تقديمها كشروط مسبقة لأي حوار، لم يعد له أي قيمة ووزن، طالما أن الحوار بدأ على أكثر من مستوى قبل أشهر بشكل سري وانتقل إلى العلن هذه المرة. وكونه وصل إلى مرتبة الطاولة الوزارية، وحيث لم يعلن أي مشارك عن انسداد أو فشل المحادثات حتى الآن.
قوة الدفع العربي مهمة في هذه المرحلة وهي فرصة قد لا تعوض لداعمي البحث عن وسيلة لإنهاء الأزمة في سوريا التي طال أمدها.
هناك من يحاول أن يقول إن الحراك العربي الجديد حيال الملف السوري لن يؤثر كثيرا في المعادلات الجيوسياسية القائمة في سوريا وهو مخطئ في ذلك. العواصم العربية قادرة على إنجاز الكثير بسبب موقعها ودورها وارتباطاتها الجغرافية والسياسية والأمنية والاقتصادية بسوريا ودول الجوار السوري أولا. وهي قادرة على فعل الكثير بسبب علاقاتها الحالية مع دمشق وأنقرة ثانيا. ووجود الرغبة السورية التركية بلعب هذه العواصم لدور فاعل مؤثر في التقريب والحلحلة ثالثا.
هل يقلق واشنطن توقيت تسخين الجبهات في شمال غرب وشمال شرق سوريا في آن واحد؟ وهل يخدم ما يدور مصالحها في سوريا أم هو يتعارض مع حساباتها هناك؟ الإجابة قد تكون عند الخارجية الروسية التي أعلنت عن مناقشة نواب وزراء خارجية روسيا وتركيا وسوريا وإيران في أستانة، عناصر "خريطة طريق" لتطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة. وقد تكون أيضا عند أقطاب الطاولة الرباعية التي اجتمعت في كازاخستان قبل أسبوعين وتأكيدها على تمسكها بهذه الآلية الجديدة والإصرار على تسريع رفع مستواها السياسي على طريق الحلحلة في ملف الأزمة السورية.
لكنها قد تكون كذلك عند الجانب الأميركي. فما الذي يعنيه الرد الأميركي السريع على بيانات أستانة عندما تعلن واشنطن عن إرسال المزيد من السلاح والعتاد والجنود إلى شرق الفرات؟ وعن قرارات التصعيد ضد القيادة السياسية في دمشق عندما تجدد المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة، خلال جلسة مشاورات عقدها مجلس الأمن، بشأن التطورات السياسية والإنسانية في سوريا، التأكيد على أن ذلك البلد غير آمن لعودة اللاجئين وأن حكومة دمشق تقف عائقا أمام وصول المساعدات الإنسانية إلى الداخل السوري؟ وقرار الإدارة الأمريكية بالتنسيق مع بعض الحلفاء إعادة طرح موضوع إيجاد آلية محاسبة للرئيس السوري خارج مجلس الأمن عبر محاكم خاصة تشكل لهذه الغاية على غرار ما حدث في التعامل مع أكثر من حالة مماثلة في السابق؟
وما هي حصة تركيا هنا حيال الخطوات الأمريكية وكيف ستتعامل معها وهي تفاوض دمشق برعاية روسية من جهة، وتطالب واشنطن بالتخلي عن دعم مجموعات "قسد " من جهة ثانية؟
تحدثت وسائل الإعلام الأمريكية قبل يومين عن توتر تركي – أمريكي محتمل بسبب خرق أنقرة لقرارات الحظر والعقوبات الغربية ضد سفن الشحن الروسية التي ترسو في الموانئ التركية. توتر يسبق ربما التوتر الأكبر في ملف التوسعة الأطلسية وعضوية السويد التي تريدها واشنطن بأسرع ما يكون. هل وصلت المساومات والمقايضات التركية الأمريكية في ملفات ثنائية وإقليمية بينها الملف السوري إلى طريق مسدود؟ عادي جدا إذا أن نقول إن أنقرة سترتب أولوياتها في سوريا انطلاقا من سياستها الجديدة. لكنها تأخذ بعين الاعتبار أيضا التموضع الإقليمي الحاصل حيال الملف. وأنها لن تنتظر واشنطن مطولا لحين مراجعة الأخيرة لسياستها السورية بالاتجاه الذي يعطي تركيا ما تريده، خصوصا عندما تشعر أن مصالح الطرفين تذهب باتجاهات معاكسة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة