ظهرت عربات "التُكتُوك" منذ الأول من أكتوبر لتصبح بديلاً عن سيارات الإسعاف الرسمية التي منعتها المليشيات من نقل الجرحى من المتظاهرين
لم يكن "التُوكتُوك" إلا وسيلة نقل الفقراء، وهي مصدر عيش للكثير من العائلات العراقية ووسيلة عمل للشباب الذين لم يحظوا بفرص عمل. لكن هذه العربات دخلت الوجدان العراقي في المظاهرات الشعبية الأخيرة التي لا تزال مستمرة لأنها تنقل جرحى المظاهرات مجاناً، ويتحدى أصحابها الرصاص والغاز المسيل للدموع وشتى أنواع التنكيل من أجل تأدية هذه المهمة الإنسانية حتى تعرض أصحابها إلى القتل. لذلك استحقت أن تصبح رمزاً في ساحة التحرير وأيقونة للمتظاهرين، ومصدر إزعاج للعساكر والمليشيات التي تحاصر المتظاهرين وتقتلهم.
للتُوكتُوك أسماء عديدة منها الباجاج أو الستوتة ـ تسمية عراقية ـ أو الركشة بالهندية، وهي مركبة نارية ذات ثلات عجلات، تستخدم غالبا كوسيلة للانتقال بالأجرة في البلاد الآسيوية ومصر والسودان.
تستحق "التُوكتُوك" أن يُشيد لها نصب تذكاري إلى جانب نصب "الحرية" لجواد سليم، بل كل رموز هذه الانتفاضة بحاجة إلى ذلك مثل إقامة نصب لبائعة المناديل الورقية التي وزعت مناديلها الورقية مجاناً على الجرحى والمتظاهرين، رغم أنها مصدر رزقها.
ظهرت عربات "التُكتُوك" منذ الأول من أكتوبر لتصبح بديلاً عن سيارات الإسعاف الرسمية التي منعتها المليشيات من نقل الجرحى من المتظاهرين إلى المستشفيات، وأكثر من ذلك قامت بإلقاء القبض على هؤلاء المتظاهرين بكل جراحهم ودمائهم النازفة في المستشفيات، واقتادتهم إلى سجونها المجهولة.
وهكذا حاز "التُكتُوك" على مكانة في قلوب المتعاطفين مع المتظاهرين لدرجة انطلق الشعراء والمغنون ينشدون القصائد والأغاني لهذه الأيقونة، منها أغنية "أبو التكتك أبو الغيرة" لحسام الرسام، للإشادة بدور أصحاب هذه العربات الصغيرة في نقل جرحى المظاهرات، وتزويدهم بالأغذية والأدوية. لذا تحولت هذه العربات من مصدر صخب وإزعاج إلى رمز للانتفاضة العراقية، وهي تلوّن ساحات الاحتجاجات بألوانها المتنوعة الأصفر والأحمر وغيرهما.
ظهرت هذه الأيقونة الثورية لشباب انتفاضة تشرين من أجل انتزاع حقوقهم والمطالبة بتغيير أوضاعهم المتردية وسط طلقات الرصاص وأعمدة الدخان، معبرةً عن التعاطف الشعبي مع احتجاجات الشباب، لذلك أصبحت هدفاً للقناصين من على سطوح المباني الشاهقة. وقد فقد المتظاهرون الجرحى الثقة والأمان بسيارات الإسعاف التي تنقل الضحايا وتذهب بلا رجعة، بل تعرض الكثير منهم للتصفية الجسدية. ومن خلال تفاعل أصحاب هذه العربات مع المتظاهرين، أصبحت وجوههم مألوفة بل ومنحت المتظاهرين الأمل والأفق بأنهم ليسوا وحيدين في ساحات الاحتجاجات. لذا اشتدت عزيمتهم في مقاومة الرصاص الحي وأعمدة الدخان والقنابل الانشطارية والغاز المسيل للدموع وأعطوا أكثر من مئة شهيد وخمسة آلاف جريح والملحمة لم تنتهِ بعد.
أصبح "التُوكتُوك" وعليه العلم العراقي علامة من علامات الانتفاضة، بل أيقونة للصور الفوتوغرافية وربما اللوحات الفنية مستقبلاً، ومن خضم هذه المواجهات ظهرت ألقابا عديدة للشباب المتظاهر مثل "شباب التُوكتُوك" أو "أبطال التُوكتُوك" لأن أصحابها أنقذوا آلاف الأرواح من المصابين في ساحة التحرير التي تحولت إلى عالمٍ مصغرٍ للمجتمع العراقي يعمل مثل خلية النحل بصورة عجيبة نالت إعجاب الجميع.
ومن يوميات الانتفاضة نلاحظ بعض الأفراد يحملون قناني "البيبسي" و"الكوكا كولا"، ولم نكن نعرف بأن تُرشها في عيون المصابين بالغاز المسيل للدموع وتعمل على تخفيف آلام قنابل الغازات، وعادة ما يقوم بذلك الفتيات والنساء وطلبة كليات الطب حتى تحولن إلى نوع من خنساء العرب التي تتجرع مرارة ألم فقدان الابن والأخ والزوج. وأكثر من ذلك، خرجت النساء من الأحياء، حاملات قدور الطعام والسندويشات، ويذهبن إلى ساحة التحرير وساحات الشرف الأخرى لتوزيعها مجاناً على المتظاهرين، متحديات الرصاص الحي.
ولهذا الغرض، نصبت الخيام لتزويد الجرحى من المتظاهرين بالضمادات والأدوية، حيث تحولت إلى مستوصفات متنقلة، وذلك ما يجسد جرأة المرأة العراقية وتضحيتها. وهناك مَنْ يتبرع بالأموال لأصحاب "التُوكتُوك" من أجل شراء الوقود، ومواصلة جهودهم في إنقاذ الجرحى من المتظاهرين. وهناك شباب متطوعون داخل هذه العربات يرتدون السترات الحمراء، ويهرعون لمساعدة الجرحى من المتظاهرين. إنها ملحمة يومية حقيقية مليئة بالمعاني والرموز والتضحية لم يكن أحد يتوقعها في ظل الظروف الصعبة التي عاشها المجتمع العراقي.
الواقع العراقي يجترح المفاهيم والمصطلحات والمعاني في خضم حياته، هكذا دخل "التُوكتُوك" وغيرها من شعارات الشباب المنتفض في قاموس العراقيين من أبوابه الواسعة منذ الأول من أكتوبر تاريخ انطلاق هذه المعجزة. مَنْ كان يتصوّر أن يضحي هؤلاء الفقراء أصحاب عربات الفقراء بأرزاق عوائلهم من أجل نصرة المتظاهرين؟ تحلت انتفاضة الشباب بالصفاء والنبل والشفافية في كفاحهم ضد الطائفية والمحاصصة والفساد. هؤلاء الشباب بثوا الروح الوطنية من جديد في أعماق الناس بعد أن كان البعض يتصور أنها انتهت في غمرة الترويج للطائفية والمحاصصة والفساد. هذه اليوميات بحاجة إلى كتب في علم الاجتماع والرواية والأدب والشعر. ودللت هذه المظاهرات على أن الشعب العراقي لحمة واحدة، وغير مرتهنة لقوى خارجية.
تستحق "التُوكتُوك" أن يُشيد لها نصب تذكاري إلى جانب نصب "الحرية" لجواد سليم، بل كل رموز هذه الانتفاضة بحاجة إلى ذلك مثل إقامة نصب لبائعة المناديل الورقية التي وزعت مناديلها الورقية مجاناً على الجرحى والمتظاهرين، رغم أنها مصدر رزقها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة